الواثق كمير يكتب: غاب الفنجري ضاع الكلام وسكت النغم!
خبرٌ صاعقٌ ونبأٌ فاجعٌ، أوجعني وأحزنني. ولولا أنه لم يكن أمرًا من عند الله، والله قدر وشاء وفعل، لما صدقت أن الصديق الأخ الأصغر صلاح النصري الفنجري قد غادر دنيانا فجأه بدون اخطار. لُمت نفسي وحاسبت ضميري لعدم اتصالي به لعشرة أيام منذ آخر يوم سمعت صوته على التلفون وهو مهموم إثر وعكةٍ المّت برفيقةِ عُمرِه سونيا أبو قصيصة، طالبتي منذ أن كانت في المرحلة المتوسطة. ضاع مني الكلام وسكت النغم، ولم أقدر على تسطير أكثر من كلمات معدودات عزيت بها نفسي وشاركت العزاء مع أقرب أصحاب وأصدقاء وزملاء الفنجري في قروب دفعته من خريجي جامعة الخرطوم، الذين تفرقت بينهم السبل فكان صلاح من المؤسسين لفكرة جمعهم في هذا القروب، الذي تطفلت عليه رغم أني أتقدم عليهم ب دفعات! لا شك أنّ أوصاف الفنجري تتطابق مع، وتنطبق على صلاح النصري، بالتمام والكمال. حقاً، فقد كان صلاح الرجل صاحب المروءة والشهامة والكرم، الخدوم يخدم الناس من غاية في نفسه، بل وفي أغلب الأحيان تأتي مبادرة خدمة الأقرباء والأصدقاء من جانبه. ولم يكن صلاح ما يطلق عليه المصريون فنجري بق (فم)، فهو ما كان مُدعياً للكرم أو مانحاً للعطايا لمن حوله دون أن يقدم شئ، بل كان صلاح يقدم دون مقابل، يوفي بوعده لا يُخيب ظنّ أحد. فكان كريماً وأجواداً، دون تظاهر أو فشخرة. وكان مُسرفا في العطاءِ ليس بالمالِ فحسب بل بجهدِه وخُلقه وزمنهِ وحضورهِ في الملماتِ، فرحاً كانت أم ترحاً، أو مساهمة مقدرة في عمل طوعي أو خدمة انسانية. كان صلاح مُتوسعاً في البذل، مُساهِماً بماله وبحضوره ومشاركاً في كافة المناسبات الاجتماعية والتضامنية والمحافل البحثية والأكاديمية. فقد نعاه أصدقائه وكل من شارك معهم في المنابر والمحافل. فقد كان مؤسساً ومشاركاً في مختلف نشاطات العديد من المنصات، على سبيل المثال، مجموعة ملتقى السودان الشامل لقضايا الثورة والدولة، مجموعة جامعة الخرطوم، ملتقى أيوا للسلام والديمقراطية، المنبر الثقافي لجنوب كالفورنيا، رابطة خريجي مدرسة محمد حسين الثانوية. للمفارقة، لم التق كفاحاً بصلاح لمنذ كثر من عقد من الزمان، ولكن ظل التواصل بيننا قائماً خاصة في السنوات الأربع الأخيرة. فكنا نتكلم على الهاتف المباشر أو عبر محادثات تطبيقات الواتساب والإيمو والبوتم عندما أكون في القاهرة في رحلتي السنوية، حيث كان يتابع معي التفاصيل يسأل عن الأحوال وعن من حضر ومن تخلف من الأصدقاء المشتركين. كان صلاح بمثابة مستودع للمعلومات والأخبار عن السودان وناسه وعن التطورات السياسية والمجتمعية المصاحبة لثورة ديسمبر. فصلاح بطبعه صبور واسع الصدر مما مكنه من البحث والتنقيب عن الحقائق وحرصه على حفظ الوثائق المهمة، مستندا على شبكة علاقاته الممتدة وصلاته الواسعه مع أطراف متقاطعة ومتباينة، ورغبته في التقصي والمساهمة في تقديم الحلول. وما كنت أكتب مسودة مقال إلا وأرسلتها له طمعاً في تعليقاته وإضافاته وإضاءاته. كان الفنجري شغوفاً بالقراءة واقتناء الكتب مما انعكس في اهتمامه المتلهف بالنشر، من جِهةٍ، وبالشعر والغناء والطرب، من جِهٍة أخرى. فحينما يذهب في زيارة للسودان يقضي معظم وقته في الذهاب للمكتبات ودور النشر التي يعرف أصحابها شخصياً، خاصة صديقه كمال عبد الكريم ميرغني. حقيقة، فقد قام الفنجري بدورٍ لن أنساه له بتوزيعه لكتابي (رحلتي مع منصور خالد) في الولايات المتحدة الأمريكية بما فاق ما قامت به دار النشر، فقد كان منفعلا ومنشغلا بالأمر بما تفوق، دون مبالغة، على اهتمامي أنا نفسي. فلم يحدث أن سافر إلى السودان في السنوات الماضية دون أن يسألني عن ما أرغب فيه من كتب حتى يأتي بها، ومن ثم إرسالها لي بالبريد من ليفيل في كنتاكي إلى تورونتو في اونتاريو. ففي اخر زيارة له في السودان (يناير- أبريل 2022) ألحّ عليّ بنفس السؤال، ولمعرفتي بولعه للفن وعشقه للغناء طلبت منه الجزئين الثاني والثالث، اللذين لم أتمكن من العثور عليهما، من السِفر الضخم للأستاذ معاوية حسن يسن: من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان! ويمتلك الفنجري مكتبة غنائية متكاملة أُسها وأساسها اغاني الحقيبة، وأغاني كبار المطربين في مرحلة ما بعد الحقيبة، والغناء الشعبي أو الذي هو باللغة العامية. وبالمثل، أوصاني وأنا أعدُ للسفر إلى القاهرة في منتصف مايو المنصرم أن أبحث له في مكتبة مدبولي عن ديوان بيرم التونسي فنان الشعب، والأسطوانة المدمجة ال CD للشيخ إمام عيسي، عطشان ياصبايا. عثرت عليهما، ولو بعد بحث، وأرسلتهما له بالبريد، بعد وصولي تورونتو، إلى ليوفيل. ولعله من المفارقات أنّ آخر بوست لصلاح في قروب جامعة الخرطوم كان مقالاً ماتعاً عن الفنان والمطرب، من رواد الغناء الشعبي، بابكر ود السافل، منوهاً في نهايه البوست إلى أن مقاله القادم سيخصصه لعطا كوكو ومحمود عبد الكريم، ثنائي الموردة. ووللفنجري صلات طيبة وعلاقات صداقة مع المطربين، ومن بينهم عباس تلودي وسامي المغربي وياسر تمتام. كان صلاح يسعدُ بالمشاركة في أفراح أصدقائه ويحتفل بزواجهم، في داخل وخارج أمريكا، بل ويُعنّى بتنظيم الحفل وحتى ما يسبقه من قيدومات. أربعة أيام منذ أن فارقنا، ولم ما زال طيف صلاح لا يبارحني، وصوته مِلأ سمعي وضحكته المجلجلة والمتقطعة تستدرج دموعي! مات الكلام وسكت النغم ولم أجد غير هذه السطور القليلة في رثاء صديقي الفنجري. الدوام لله والبقاء له وحده وهذا هو حال الدنيا. رحم الله صلاح وأسكنه فسيح جناته والبركة في أسرته الصغيرة والممتدة وفي جميع أهله، وفي أصدقائه وحبانه وتلاميذه وزملائه في الدراسة وفي كل الوطن. العزاء الحار لرفيقة دربه سونيا أبو قصيصة وابنه محمد، ولأشِقاء صلاح وأخيه الأكبر عبد الرحيم، ولشقيقات سونيا وأخيها سيف.
صحيفة اليوم التالي