دخلت الحكومة السودانية في تحد جديد مع مواطنيها بإعلانها تحرير سعر الدواء، بحجة أنه “الطريق الصحيح لتحقيق الوفرة في هذه السلعة الحيوية”، لكن القرار لقي انتقاداً واسعاً من قبل شرائح مختلفة من المواطنين السودانيين، كونه يفاقم مصاعب ومعاناة الغالبية العظمى في المجتمع السوداني، بخاصة أصحاب الأمراض المزمنة.
يأتي هذا القرار، الذي أوصت به ورشة متخصصة حول إصلاح النظام الصحي، في وقت يشهد قطاع الأدوية في البلاد ارتفاعاً متواصلاً في الأسعار، الأمر الذي أدى إلى عجز كثيرين من المرضى عن شرائها، فضلاً عن انعدام أنواع متعددة من تلك الأدوية بسبب توقف عدد كبير من الشركات عن الاستيراد نظراً إلى الوضع الاقتصادي المتأزم.
آثار خطيرة
وعلق أستاذ الاقتصاد السياسي، حسن بشير محمد نور، على القرار بالقول إن “هذا الإجراء يدل على أن الحكومة السودانية غير مهتمة بالجوانب الإنسانية والاجتماعية لمواطنيها في ظل معاناتهم من الوضع الصحي بسبب الارتفاع الكبير في كلفة العلاج، فضلاً عن الخدمات الصحية المتردية، فتحرير سعر الدواء بلا شك ستكون له آثار اجتماعية خطيرة جداً على المجتمع السوداني الذي يعاني شظف العيش، فبات غير قادر على مجاراة هذا الوضع الاقتصادي المعقد”. وأضاف محمد نور أن “المشكلة أن الحكومة الحالية وضعت نفسها في زاوية ضيقة جداً، فلم يعد لديها حلول غير اتخاذ القرارات الصعبة التي تزيد من عزلتها مع غالبية الشعب، لكن بشكل عام، الناس استوعبت تماماً بأن حكومات الانقلابات العسكرية ليس لديها أفق لأي حلول، أياً كانت، سياسية أو اقتصادية أو أمنية أو غيرها. فالحل هو أن ينتهي هذا الوضع (الانقلاب) وتعود علاقات البلاد مع العالم الخارجي، إضافة إلى العودة للمسار الذي كانت عليه الحكومة الانتقالية”.
أدت العزلة التي فرضها المجتمع الدولي على الحكومة السودانية عقب الانقلاب إلى اختفاء أدوية عدة من البلاد (اندبندنت عربية – حسن حامد)
تضاعف 300 في المئة
في السياق، أوضح رئيس شعبة الصيدليات الخاصة في السودان، نصري مرقص بأن “تحرير سعر الدواء يعد قراراً كارثياً لأنه يفتقر إلى عاملين أساسيين هما الجانبان الأخلاقي والإنساني، باعتبار أن علاج الحالات المزمنة والأطفال في سن مبكرة جداً مسؤولية الدولة من الناحية الأخلاقية، فالعلاج حق إنساني لا يقدم كمنحة أو منة أو فضل من الدولة للمواطن”.
وتابع “عندما توفر الدولة علاج مواطنيها، خصوصاً ذوي الأمراض المزمنة فإن الفائدة تعود إليها لأنها تكون قد جعلتهم أشخاصاً منتجين، لكن تهربها من مسؤوليتها في الجوانب الإنسانية هو أمر غير مقبول، وفي اعتقادي أن هذا القرار لن يصمد كثيراً فستتصدى له كل قطاعات الشعب السوداني خصوصاً المهتمين بحقوق الإنسان”.
وتوقع مرقص أن “تؤدي الضغوط الموجهة نحو الجهات المسؤولة إلى تراجعها عن هذا القرار، بخاصة أن سعر الدواء في الصيدليات الخاصة تضاعف بعد تحرير أسعاره، 300 في المئة، فعلى تلك الجهات أن تدرك أن 90 في المئة من دول العالم توفر العلاج مجاناً لأصحاب الأمراض المزمنة والأطفال في سن مبكرة جداً”.
واعتبر رئيس شعبة الصيدليات الخاصة في السودان، أن “حجة الدولة بأن تحرير سعر الدواء يسهم في وفرته، حجة واهية وكاذبة، فمن غير المعقول أن تسقط حق المواطن في العلاج المجاني، وفي المقابل تسعى إلى توفير قنابل الغاز المسيل للدموع، والرصاص لقتل المتظاهرين الذين يخرجون إلى الشوارع للمطالبة بالحكم المدني”.
أعباء ثقيلة
وجاء في بيان لتجمع الصيادلة السودانيين، أنه “من المؤسف أن الحكومة السودانية ممثلة بوزارة الصحة اتجهت دونما أدنى مجهود، إلى تحرير سعر دواء الإمدادات الطبية بالكامل واعتماد سعر الدولار المحرر في تسعيره بحجة تحقيق الوفرة الدوائية، محملة بهذا القرار المجحف حقاً، ملايين المواطنين مزيداً من الأعباء الثقيلة”.
وأشار البيان إلى أن “هذه الخطوة ستزيد أسعار الدواء أضعافاً مضاعفة بخاصة الأدوية المنقذة للحياة التي لا يتم توفيرها إلا عبر الإمدادات الطبية، وهي الجهة المنوط بها الأمن الدوائي، مما يجعل الحصول عليه في غاية الصعوبة للمواطن السوداني الذي لا يتجاوز متوسط دخله سعر عدة كبسولات مضاد حيوي”.
ولفت البيان إلى أن “الدعم الحكومي غير المباشر للدواء يأتي عبر الصندوق القومي للإمدادات الطبية، حيث كان يتم تسعير الدواء بمبلغ 18 جنيهاً مقابل الدولار حتى أكتوبر (تشرين الأول) 2019، بعدها تمت زيادة التسعيرة إلى 55 جنيهاً مطلع عام 2020، ثم ارتفعت التسعيرة إلى 165 جنيهاً عام 2021، وتوالت زيادات الدواء حتى تم تحريره بالكامل الآن”.
انفلات الأسعار
وبين “تجمع الصيادلة” أن “الحكومة باتخاذها هذا القرار تكون قد رفعت يدها تماماً عن قطاع الدواء، الأمر الذي سيؤدي من دون أدنى شك إلى ارتفاع في الأسعار بشكل لا يطاق، في وقت بات المواطن السوداني في حيرة من أمره نتيجة سعر الدواء الباهظ، مما نتج عن ذلك تخلي البعض عن الأدوية المستديمة واستخدامها بطرق خاطئة”.
وتابع البيان “تابعنا في تجمع الصيادلة الزيادة المهولة في أسعار الأنسولين وأدوية السرطان والتخدير وغيرها من الأدوية المنقذة للحياة، والتي تتقلص بدائل استخدامها بعد هذه الزيادات بالنسبة إلى المرضى وذويهم، وقد سبق أن حذرنا من الانفلات القادم في أسعار الدواء وأثره في المواطن والنظام الصحي، وتحول الصندوق القومي للإمدادات الطبية من توفير الأدوية المنقذة للحياة إلى مؤسسة ربحية منافسة للقطاع الخاص في مسار تجفيفها، وكل ما نخشاه هو أن يفقد المواطن صحته بسبب سياسات النظام الدوائي الجديد”.
بدأت أزمة الدواء في السودان منذ يناير 2020، عندما ألغى البنك المركزي تخصيص نسبة 10 في المئة من حصيلة الصادرات غير النفطية، لاستيراد الدواء (اندبندنت عربية – حسن حامد)
شعار الوقاية
وكان وزير المالية والتخطيط الاقتصادي السوداني، جبريل إبراهيم، أكد خلال ورشة إصلاح النظام الصحي أهمية “تقديم كل الخدمات الصحية بصورة مرضية ومجانية للمواطنين، فضلاً عن الاستثمار في الكادر البشري من تأهيل وتدريب وتوفير المعينات لتحقيق الأهداف”.
وأشار إلى أن “موازنة 2023 ستتضمن زيادة في نسبة تمويل الصحة”، حاضاً على “الاستفادة القصوى من الموارد المالية المتاحة والاستخدام الأمثل لها”، فيما لفت إلى أن “وزارة الصحة الاتحادية تعد من أكثر الوزارات حظاً في نيل الدعم الخارجي عبر المنظمات الداعمة لها”.
ولفت إبراهيم إلى “ضرورة الاستفادة من تجارب الدول في طريقة إصلاح نظام التمويل الصحي، إضافة إلى الاهتمام بتطبيق شعار الوقاية خير من العلاج، وأهمية توجيه الموارد المالية نحو الوقاية بهدف الحد من الأمراض والوبائيات”.
وأوصت “ورشة إصلاح النظام الصحي” بضرورة تكوين “مجلس رقابة واعتماد” بإشراف الوزير الاتحادي، و”وضع سياسات واضحة لزيادة الإنفاق على الوقاية لتقليل كلفة الصرف على العلاج، إلى جانب التركيز على قيمة رأس المال البشري وتعزيزه، وتوفير الخدمات العلاجية المجانية وتوزيعها بعدالة، وتحويل بنود الدعم من الإمدادات الطبية إلى العلاج المجاني والتأمين الصحي، فضلاً عن اعتماد سعر الدولار المحرر في تسعير الدواء بواسطة الإمدادات الطبية لتحقيق الوفرة الدوائية واستدامتها وسداد ديون الإمدادات”.
بداية الأزمة
وبدأت أزمة الدواء في السودان منذ يناير (كانون الثاني) 2020، عندما ألغى “بنك السودان” تخصيص نسبة 10 في المئة من حصيلة الصادرات غير النفطية، والتي كانت توجه إلى استيراد الدواء، فيما أدت العزلة التي فرضها المجتمع الدولي على الحكومة السودانية عقب انقلاب قائد الجيش عبدالفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، والتي على أثرها توقفت المساعدات الخارجية للبلاد، إلى اختفاء أدوية الأمراض المزمنة وأدوية الأمراض النفسية التي كانت تستورد عبر مزادات بنك السودان بنسبة 60 في المئة.
ويستورد السودان سنوياً أدوية تتجاوز قيمتها 300 مليون دولار وفق إحصاءات سابقة صادرة عن المجلس القومي للأدوية والسموم، بينما تغطي الصناعة المحلية 40 في المئة فقط من حاجة السوق.
إسماعيل محمد علي
إندبندنت عربية