عندما تغيّر “العسكرتاريا” السودانية جلدها

العارف بحال السودان، منذ حصوله على الاستقلال في خمسينيات القرن الراحل، يدرك أن ثمّة ثلاث حقائق مثيرة للجدل، تطفو على سطح الأحداث، أولاها أن أحزاب التيار الليبرالي والقوى الديمقراطية التقليدية ظلت مشدودةً إلى الآباء المؤسسين لها، وبعضها اعتبر ولاءه لطائفة دينية معينة مقياسا لانخراطه في صفوف الحزب الذي ينتمي إليه، ذلك واضح لدى قيادات حزب الأمة الذي لم يخرج عن عباءة طائفة المهدية وأسرة الإمام الراحل محمد أحمد المهدي، وظل محافظا على تراثها ومتمسّكا بطروحاتها من دون أن تصل إليه متغيرات العصر، وقوانينه الجديدة. وقل الشيء نفسه عن الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي يدين بالولاء للطائفة الختمية الصوفية ومرشدها الإمام الراحل محمد عثمان الميرغني، وهذا الحزب هو الآخر ظلّ مشدودا إلى إرثه وغير مستوعب ما شهده العالم من تحوّلات.

لا ينفي هذا كله وجود من يطمح إلى تشكيل رؤية مختلفة داخل هذين الحزبين أو خارجهما من أطراف التيار الليبرالي والقوى الديمقراطية التقليدية، لكن هذه المحاولات لم يقدّر لها التقدّم لسبب أو لآخر، وظلت محصورة في إطار ضيق وغير فاعل على المستوى الشعبي.

ومع هذا كله أيضا، هذان الحزبان، ورغم ما يحملانه من تناقضاتٍ وقصور في هذا الجانب أو ذاك فقد ظلا، وعلى امتداد السنوات السبعين التي أعقبت الاستقلال، فاعلين في الحياة السياسية في السودان، مرّة في السلطة وأخرى في المعارضة، وبين هذين القطبين كانت مواقفهما تتأرجح ولا تستقرّ على حال، ولا تأخذ صفة الحسم، وهو ما نلاحظه في موقف كل منهما من صراع العسكر والقوى المدنية.

الحقيقة الثانية أن “العسكرتاريا” السودانية ظلت منذ الاستقلال في قلب السلطة، وإن بدت في بعض الفترات على مسافة منها، وهي في العديد من الحالات، كلما تصاعدت الضغوط الشعبية عليها، كانت تخرج من الباب لتدخل من الشباك، وتعلمت على مدى السنين كيف تغيّر جلدها كلما شعرت بدنوّ الخطر منها، وقد دأبت على إطلاق الوعود الكاذبة بالتخلي عن السلطة أو الاستعانة بقوى خارجية لدعمها وتمكينها من البقاء، حتى وصل بها الأمر إلى فتح قنوات اتصال مع إسرائيل، وهذا ما نرصده اليوم في تردّدها في القبول بمشروع الدستور الذي أعدّته نقابة المحامين الذي يقضي بمناصفة السلطة بين العسكر والمدنيين لمرحلة انتقالية حدّدت بسنتين على أن يفضي إلى قيام حكم مدني ديمقراطي. وعن هذه المسألة، قال قائد الانقلاب الجنرال، عبد الفتاح البرهان، أن الدستور سيدرس، ولكنه أنكر أن تكون ثمّة تسوية، و”لن نسمح لأية جهة بالعمل على تفكيك القوات المسلحة ومحاولة وضع يدها عليها”. ويدلّ هذا الموقف الصريح على أن العسكر كعادتهم يراهنون على عنصر الزمن لاحتواء حركة الاحتجاجات واستيعاب الضغوط، والبقاء على كراسي الحكم، وقد يخدمهم في ذلك موقف فريق من “قوى الحرية والتغيير” وبعض الحركات الشعبية الصغيرة التي تدعو إلى التفاهم معهم، وكذا رؤية “الآلية الثلاثية” التي شكلتها الأمم المتحدة الساعية إلى تسوية ما بين المدنيين والعسكر.

ظلت العسكرتاريا السودانية منذ الاستقلال في قلب السلطة، وإن بدت في بعض الفترات على مسافة منها

ثالثة هذه الحقائق وأهمها تصاعد تأثير (وفاعلية) قوى اجتماعية جديدة نشطة على المستوى الشعبي، تتمسّك برفض أية تسوية مع العسكر، وتدعو إلى تصعيد حركة الاحتجاجات حتى سقوط التشكيلة العسكرية القابضة على السلطة ومواصلة العمل على تأسيس “سودان جديد”. ويصف حكيم سوداني هذه القوى بأنها “تريد الرغيف كاملا فيما ترضى القوى التقليدية بنصف الرغيف”. ويضم هذا التيار لجان المقاومة التي ولدت قبل عقد، واستطاعت تنظيم نفسها وتنشيط فاعليتها، والحزب الشيوعي الذي تمكّن من تجاوز ما شابه من ضعف وقصور في مراحل سابقة، وكذا حزب البعث الذي أعاد هو الآخر تنظيم نفسه، إلى جانب بعض أطراف “قوى التغيير” وكذلك حركات طلابية ومهنية وشخصيات فاعلة في المجتمع. وتتطلع هذه القوى إلى تشكيل ائتلاف يكون له وزنه في التأثير على مجريات الأحداث، وهي ترفع شعار “لا تفاوض (مع العسكر) ولا شراكة ولا شرعية (لهم).

تمثّل هذه الحقائق الثلاث مجتمعة واقع السودان اليوم، وتضع أمام السودانيين، في سعيهم إلى الخروج من المأزق الحالي الذي يوشك أن يتحوّل إلى “متلازمة” مستقرّة، واحدة من رؤيتين، إما تسوية مع العسكر أو تغيير شامل. وفي الحالين، ثمّة مخاطر وتعقيدات ينبغي الانتباه لها قبل التوصل إلى الخيار المناسب، لكن في نهاية المطاف لن يصحّ إلا الصحيح.

عبد اللطيف السعدون

العربي الجديد

Exit mobile version