“النقارة” هي مجموعة آلات موسيقية تستخدم في السودان وخصوصاً بمنطقة كردفان كنوع من الطبل لتنظيم احتفال حماسي راقص. فحين تُضرب ترتفع دقات قلوب المشاهدين، ومن يسمع صوتها من بعيد تخترقه الإيقاعات الطروبة التي تصدر إعلاناً عن حال من الفرح أو الحزن، أو عن عمل جماعي “نفير”، أو لاسترداد مسروقات “فزع”، إذ تختلف الإيقاعات بحسب المناسبة التي تضرب من أجلها.
تلعب “النقارة” باعتبارها تراثاً موسيقياً سودانياً خالصاً دوراً مهماً في توحيد الوجدان الشعبي والوطني، مهما كانت نوعية المناسبة، فهي قادرة على إشعال القلوب حباً وحرباً وسلاماً وعملاً جماعياً، لأن الطبول تجسيد لواقع المجتمع الذي يهرع إلى مكان الاحتفال.
موروث ثقافي واحد
“النقارة” عبارة عن آلة موسيقية أسطوانية الشكل تتكون من عدة طبول مختلفة الأحجام وتنحت من جذوع الأشجار القوية، ويتم تجليدها بجلود الأبقار من الجهتين، وتستخدم عصي بمواصفات خاصة في ضربها لتطلق الأصوات المختلفة مكونة مزيجاً من الإيقاعات الدفاقة.
نقيب الفنانين السودانيين عبد القادر سالم، قال إن “النقارة آلة موسيقية شائعة في كل أنحاء بلادنا، وعلى وجه الخصوص في ولايات كردفان، وتعد موروثاً ثقافياً لقبائل المسيرية والحوازمة، ولها جمهورها الشبيه بمشجعي كرة القدم، ولا تصاحب الإيقاعات أية أغنيات، فقط تدق الطبول ليدخل الحلبة الفتيان والفتيات”.
تبدأ الرقصة بغناء تراثي وحماسي من النساء ويطلق عليهن “الحكامات”، والرجال ويطلق عليهم “الهدايين”، وبعدها تستأنف “النقارة”.
هل تمنح التسوية عسكر السودان الحصانة من المحاسبة؟
ووفقاً لسالم فإنها تتكون من ثلاثة طبول تحمل أسماء مختلفة بحسب دورها في التوقيع، ويطلق على الطبل الرئيس وهو الأكبر حجماً “التارقة”، ويليه الأصغر “الحمار”، وثالثها يسمى “التمبل”، ويتم ضربها وفقاً لتناغم موسيقى محدد لتطلق المعزوفة الجمالية الشهيرة.
ويطلق على العازفين أسماء مختلفة، فـ”الضراب” هو الأول، والثاني “السواق”، فيما يأتي “القواد” في مؤخرة الترتيب.
تعد “النقارة”، بحسب عبد القادر وهو بجانب كونه مغنياً شهيراً أحد دارسي الموسيقى السودانية، واحدة من أهم آلات الفنون الشعبية، ولها أثر كبير في عوالم التراث، بل وتستغل في رقصات لأخرى مثل “الكرنق” المشهورة لدى قبائل النوبة في جنوب وغرب كردفان.
تطلق على النقارة مسميات مختلفة بحسب الجغرافيا التي تضرب فيها واللغات المحلية، ففي مناطق “الروصيرص” جنوب شرقي السودان تعرف باسم “أندنقا”، أما في ولايات دارفور فهي “البردية، والفرنقية، والتنبل”.
وفي مناسبات الزواج والختان يستمر الرقص ساعات طويلة تبدأ في الظهيرة وتستمر حتى قبيل أذان المغرب، وأثناء الحفل يربط الراقصون الرجال على أرجلهم أدوات إيقاعية مصنوعة من جريد النخيل ومملوءة بالحصي الصغير يطلق عليها “كشكوش”، لتقدم هي الأخرى نغمها الخاص عند ضرب الأرجل في الأرض، أما في الأعياد فتستمر الاحتفالات لمدة ثلاثة أيام.
الباحث في التراث الشعبي السوداني أمير النور يقول إن “النقارة أحد القواسم المشتركة بين المجموعات الثقافية في البلاد، لا سيما أقاليم دارفور وكردفان والنيل الأزرق، لكنها غير متعارف عليها في شمال السودان، كما تعد الآلة الأشهر عند قبيلة الفور في دارفور”.
وعن كيفية تصنيع هذه الآلة الموسيقية، يبين النور أنه “يتم نحت الطبل من سيقان الأشجار المحلية مثل الحميض والزان وأم بيوضة ذات الأخشاب القوية، وتبدأ العملية بقطع جزع الشجرة المختار بطول متر تقريباً، ويتم اختيار الساق السليمة الخالية من العقد والتشوهات، وبعدها يجري تجويفه من الجهتين، ثم تسوى وتنعم لتأخذ شكلاً مخروطياً ويتم تجليدها بجلود الأبقار غير المدبوغة والمنزوعة الصوف، وتحزم بسيور من ذات الجلد ثم تترك في الشمس ثلاثة أيام لتجف وتصبح جاهزة للضرب”.
في الحرب والسلام والرحيل
يوضح النور أن “النقارة ليست مجرد رقصة شعبية، بل تلعب كآلة دوراً مهماً في حياة السكان، فهي أداة لإعلان الحرب، وتُعزف عليها إيقاعات معروفة للمجموعات التي تقطن القرى والفرقان، ويعلن من خلالها الاستعداد والتهيؤ للهجوم على العدو، وبجانب أهميتها في الاحتفال تستخدم أيضاً حين يموت أحد في الريف، كما تدق عند مواكب الزعامات المحلية، أو في حال فقدان أحد أفراد القبيلة، وكل مناسبة لها إيقاعها الخاص الذي يعرفه الناس من دون سؤال، فالتائه في الفيافي مثلاً يسمع الصوت الذي يبحث عنه فيهتدي إلى مكان قريته ويعود”.
ويقول الباحث في التراث السوداني “في كردفان يستعان بها لتجميع الأهالي للحاق باللصوص واستعادة المنهوبات منهم في ما يعرف بـ”الفزع”، أو في حشدهم للعمل الطوعي أو الاستنفار الذي يعرف بـ”النفير” وفقاً لإيقاع محدد يحمل اسم “خدموها”، وهو دلالة على أهمية جمع الشباب للقيام بمهمة محددة لا تقبل التأخير، وتختم هذه المهمة بإيقاعات محددة أيضاً يطلق عليها “جَنْ جَنْ” وتعني اكتمال العمل وشكر من ساهم في النفير”.
وتابع “تختلف الإيقاعات بحسب القبائل، فمثلاً قبيلة المسيرية تحتفظ بأصوات محددة ومعروفة يطلق عليها (سيمبو، وعجوز قوم، وجدية كر، وأم كز)، وهي تسميات مأخوذة من الإيقاعات التي تصدر عن النقارة لتحمل معنى معيناً وتوصل رسالة محددة، ولدى سماع أحد تلك الإيقاعات يعرف الجميع أن شيئاً ما يحدث في الجهة التي تنطلق منها الإشارة فيتجهون إليه خفافاً، فهي سر الليل عند العسكريين، وتنقل إلى الناس رسالة محددة من دون كلام”.
ويمضي النور قائلاً “مثلما تعلن الحرب والفرح والحزن بضربات محددة على الطبول، فإن الرحيل عند القبائل له إيقاع محدد يسمي “المسار”، وحين تطلق يبدأ مسير الناس ومواشيهم باتجاه مناطق الكلأ، بل إن هناك إيقاعاً عكسياً يعرف باسم “مقام”، وحين يضرب فهو يعني أن الرحيل قد تأجل ليهرع الناس لمعرفة الأسباب”.
رمزية الأزياء
ويواصل “تشارك الفتيات بجانب الشباب في رقصة النقارة، إذ يحتللن نصف الدائرة ويكمل الفتيان المساحة الأخرى، ويتقدم القائد ويطلق عليه “الروق” وهو أمهر الراقصين ليختار فتاة لتراقصه، ويتبادلان حركات رشيقة وخفيفة تسمي “الخوازق”، وبعدها يتحول المكان إلى الرقص الجماعي، بينما يقف الأكبر سناً ومن تجاوزت أعمارهم الخمسين رجالاً ونساء حول الحلبة بكامل أبهتهم مرتدين العمامة والجلباب الناصعين”.
ولرقصة النقارة أكسسواراتها الخاصة، عن ذلك تقول الباحثة في الأزياء الشعبية زينب عبدالله “تمثل أزياء النقارة جزءاً مهماً من تقاليد القبيلة، لا سيما زي النساء بشكل خاص، فالفتيات يلبسن فستاناً تتم حياكته بطريقة تناسب الرقص، فيكون ضيقاً من ناحية الصدر وواسعاً من الأسفل لعدم تقييد حركة الأرجل والأيدي صعوداً وهبوطاً”.
وأردفت “إلى جانب الأزياء فإن الراقصات يزين رؤوسهن بالحلي المزركشة، ويصففن شعورهن على شكل ضفائر تزينها بكرات من العطور الجافة لتنبعث منها الروائح الطيبة، وتربط على أطرافها أنواع من الصدف “الودع” لتطلق إيقاعات خاصة مع الحركة العنيفة، ثم يثبت ريش النعام على الشعر بشرائط رأسية رفيعة”.
وفي ما يتعلق بزي الرجال تقول عبدالله إنه “يتكون من جلباب خاص يطلق عليه “عراقي”، ويصنع من خامات قطنية ناعمة بألوان حمراء وخضراء تلفت الانتباه إلى الراقص داخل الحلبة، وإزار طويل يخاط بالصوف والحرير “سربال” يطلق عليه محلياً “ود أم ضليلو”، وعلى الصدر تلبس بزة خاصة “صديري”، وتضاف لزي الفتيان أشرطة ملونة أفقية ورأسية بخطوط متساوية أو متقاطعة بحسب الأذواق، فيما يحمل الشباب في أياديهم عصياً رفيعة وآلة نفخ تعرف بـ”الصفارة” تعد مكملة للزي وتصدر عنها أصوات طربية، بينما يغطى الرأس بالعمامة المزينة بريش النعام والملفوفة بإحكام حتى لا تسقط أثناء الرقص”.
عثمان الاسباط
إندبندنت عربية