شيئاً فشيئاً يتنامى تيار وتفكير جمعي في عدة بقاع من السودان، وفي وسطه وشماله على وجه أكثر، يتبنى وجهة نظر غير مبالية بفصل إقليم دارفور عن بقية أجزاء السودان، بل يذهب البعض في هذا التيار إلى الدعوة صراحة لفصل الإقليم عمّا تبقى من السودان !!
لم تكن الحرب الأهلية التي اندلعت في الإقليم مطلع الألفية هي السبب المباشر وراء تنامي هذا التيار، لكنه ما من شك في أن تداعياتها وأساليب معالجتها كانت عنصراً أساسياً فيه، كما سنحاول أن نبين في هذا المقال.
(٢)
في مايو من العام ٢٠٠٦م وقّع ممثلون عن الحكومة السودانية وممثل عن إحدى الحركتين اللتين قادتا التعبئة والحرب الأهلية في الإقليم اتفاقاً للسلام في العاصمة النيجيرية أبوجا، برعاية الإتحاد الإفريقي والأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، تم بموجبه منح سلطات حصرية للإقليم وميزات في قسمة الثروة ومعالجة أوضاع النازحين واللاجئين.
وفي العام ٢٠١١م توصل ممثلون عن حكومة السودان وحركة التحرير والعدالة، المكونة من فصائل منشقة عن حركة العدل والمساواة وحركة جيش تحرير السودان، إتفاقاً عُرف باتفاق الدوحة لسلام دارفور، أعطى هو الآخر ميزات لسكان الإقليم بقصد معالجة المظالم المتعلقة بما تم توصيفه أسباباً أدت لإشعال التمرد على السلطة المركزية والتعبئة لنيل الحقوق عن طريق حمل السلاح.
تنصّل المجتمع الدولي عن التزاماته المتعلقة بدعم اتفاقيتي أبوجا والدوحة، مثلما تنصل عن التزاماته بدعم إتفاق السلام الشامل مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق ومن بعده سلفا كير، مما كان سبباً أساسياً في عدم الوفاء بمستحقات ما تم الإتفاق عليه بين الحكومة السودانية والفصائل التي كانت تحمل السلاح في دارفور، لكن جانباً من تلك الإتفاقيات جرى تنفيذه، وهو ما يعنينا أكثر هنا، إذ كفلت تلك الإتفاقيات تمييزاً إيجابياً لأبناء الإقليم ممن ينافسون أقرانهم للدخول إلى الجامعات السودانية.
(٣)
بموجب ذلك التمييز الإيجابي، أصبح المنحدرون من إقليم دارفور، حتى وإن لم يكونوا من سكان الإقليم، يُمنحون درجات إضافية فوق النتيجة التي حصلوا عليها لدخول الجامعات، ليس في الإقليم وحده وإنما في كل الجامعات السودانية، فضلاً عن أشكال أخرى من التمييز الإيجابي، وكنتيجة لذلك أصبح الطالب أو الطالبة من إقليم كردفان مثلاً، يفقد فرصته في الترشيح للكلية التي يؤهله مجموع درجاته لدخولها لأن زميله من دارفور قد تلقى دعماً وتمييزاً بموجب إتفاق السلام، مكّنه من حجز المقعد قبله، ومنذ ذلك الحين وهذا الشق من الإتفاق يجري تنفيذه!!
زاد اتفاق السلام الذي تمّ توقيعه بين السلطات الإنتقالية السودانية وبين فصائل الجبهة الثورية من “حركات الكفاح المسلح” الدارفورية في أكتوبر ٢٠٢٠م، برعاية دولة جنوب السودان، والذي عُرف باتفاقية جوبا، زاد من بلة الطين، إذ بدا وكأن الأطراف المتفاوضة، على طرفي الطاولة، غلّبت مصالح الإقليم الذى ينحدر أغلبها منه على مصالح بقية أنحاء السودان فزادت أوجه التمييز الإيجابي لمنسوبي الإقليم دون أخذ في الإعتبار قدرة السلطة المركزية للوفاء بما يطلبه المفاوضون، وساعدت الأوضاع غير المواتية التي يعيشها السودان منذ الإطاحة بالنظام السابق، في إلقاء مزيد الضوء على إتفاق جوبا فانبرت أطراف متعددة لانتقاده والمطالبة بتعديله أو حتى إلغائه،بعضها من داخل الإقليم وأكثرها من غيره.
وفي أوضاع الاستقطاب والاستقطاب المضاد، أصبح إتفاق جوبا للسلام في دارفور مادة للمزايدة السياسية والتوترات الأمنية، إلى الدرجة التي انتظم فيها عدد من أبناء وسط وشمال السودان ممن تقاعدوا عن الخدمة العسكرية في القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى في تشكيل عسكري جديد أعلنوا عنه قبل يومين في مؤتمر صحفي وأسموه قوات حماية الوطن.
وحين نقرأ هذا التطور الجديد، مع الخطاب الذي ظل يَرُوج في وسائل التواصل الاجتماعي منذ ثلاث سنوات، ويحمل أشكالاً متعددة من التراشق بين مَن يُعرفون بأبناء الهامش ومَن يُعرفون بأبناء البحر، سندرك أن أمشاج الوحدة الوطنية في بلادنا أصابها تلف عظيم ليس من السهل أن تبرأ منه في المدى المنظور، فنحن – بلغة السياسة – أمام واقع أقرب إلى كونه تعميم تجربة التمرد على كل أنحاء السودان، بدلاً من تعميم السلام !!
(٤)
من غير وعيٍ سياسي كاف، تسلل إلى الخطاب العام فى السودان وفي إعلامنا، ومنذ أربعة عقود، خطاب المظلومية والهامش، ويرجع الوزر في ذلك، بدون شك، إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق، فهي التي تعمدت تعبئة “الهامش” ضد ما تعبره المركز، ممثلاً في أبناء الشمال والوسط، والذي تزعم أنه هو وحده الذي ظل يحكم السودان منذ استقلاله، ويستأثر بخيراته ويسلب حقوق الأقاليم الأخرى ويهمشها ويقتل أبناءها.
ولئن كان هذا التوصيف صحيحاً من حيث المظهر إلا أنه مجانب للصواب من حيث الجوهر، فالذين استأثروا بالسلطة وأساءوا استخدامها وأهملوا بقية أنحاء البلاد لا يمثلون إلا أنفسهم، وتحضرني هنا مقولة منسوبة للقائد الجنوبي أروك طون أروك عندما زار الولاية الشمالية أواخر التسعينيات ونظر في حال أهلها، فقال لأهلها أنتم أحق بالتمرد منا، لكن مشكلتكم أنكم ليست لديكم غابة!!
لقد أسهمت الحروب الأهلية الطاحنة التي عاشتها العلاقة بين أبناء جنوب السودان وشماله، والتعبئة والتحريض اللذين مارستهما الحركة الشعبية على مدى عقود من الزمن، في أن يأتي انفصال جنوب السودان عن بقيته “سلساً” وكأن كل جزء من جسد الوطن كان ينتظر تلك اللحظة لكي يرتاح، وما أراه اليوم هو كأننا نتهيأ للحظة مماثلة تتعلق بجزء عزيز آخر من بلادنا هو إقليم دارفور !!
(٥)
قد يقول قائل من أبناء دارفور، نحن لن ننفصل لأننا نحن الأصل، وعلى مَن يريد الانفصال أن يذهب هو، وهذا هو عين المنطق المفضي إلى مثل النتيجة التي أعلن عنها الصوارمي قبل يومين وهي في وجهها الآخر تعني أن الكل سيعتبر نفسه الأصل وستكون النتيجة هي الحرب الأهلية التي لا تبقي ولا تزر، إذ حين يستمسك كل جزء من جسد الوطن بما يراه حقوقاً له دون مراعاة لحقوق الآخرين، ودون الأخذ بعين الاعتبار في حجم مساهمته في الناتج القومي الإجمالي، تصبح “كعكة” السلطة أقل بكثير عن الوفاء بما يطلبه أي طرف من الأطراف.
إن المنطق الذي يفكر به، ويعتمده، بعض إخواننا من منسوبي “حركات الكفاح المسلح” ومَن يناصرونهم، هو منطق قاصر أقرب إلى منطق القبلية منه إلى منطق الوطنية وسيؤدي في نهاية الأمر إلى تنامي الرغبة في التخلص مما يراه كثيرون من أبناء وبنات السودان الآخرين عبئاً من الأفضل التخلص منه، كما قد يؤدي إلى تجييش أقاليم السودان ضد بعضها، فالمظالم التاريخية في التنمية ليست حصرية على إقليم بعينه كما سبق وأن أشرنا.
(٦)
الطبيعي أن يكون السودان كله كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه إقليم تداعت له سائر أقاليم الوطن بالمواساة المعنوية أولاً ثم بما يقيل عثرته الآنية، والمطلوب أن يفكر الساسة وصانعو القرار في بلادنا تفكيراً شاملاً يفضي إلى حلول شاملة لقضايانا التنموية ، ومن المفترض أن تأخذ المناطق المتأثرة بالحرب أولوية في ما يُتاح من مشروعات تنموية تقيل عثرة مواطنيها، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب حق الآخرين في التنمية أيضاً.
وفي هذا السياق لا ينبغي أن ينظر القادة من إقليم دارفور، بمختلف توجهاتهم السياسية وانتماءاتهم القبلية، إلى الانتقادات الموجهة إلى إتفاق جوبا للسلام باعتبارها مجرد غيرة سياسية أو حميَّة جهوية، فهناك شعور متنامٍ – بغض النظر عن موضوعيته من عدمها – بأن دارفور لم تكتف بنصيبها فحسب وإنما قضمت من أنصبة الآخرين، ولا شك في أن مُؤدى هذا الشعور على المدى الطويل أن تتحول الحالة من “كل البلد دارفور” إلى “كل البلد عدا دارفور” !!
ولا بأس من أن نذكّر إخوتنا القادة من إقليم دارفور بالنموذج الذي انتهى إليه جنوب السودان إذا ما تبنوا بأنفسهم خيار الإنفصال، فبدلاً من أن يصبح الجنوب هو هونج كونج إفريقيا لجهة الازدهار الاقتصادي والتحول الديمقراطي، أصبحت جمهورية جنوب السودان أحد أبرز نماذج الدول الفاشلة على مستوى العالم، وعاش شعبها فظائع الحرب الأهلية بين قبائلها بأكثر مما عاشها في حربه مع الشمال. فدارفور ليست موطناً لقبيلة واحدة أو حتى عشر، وبين قبائلها من الثأرات والخصومات ما هو كفيل بتفجيرها بمجرد أن يصبح الإقليم دولة منفصلة لا سمح الله.
العبيد أحمد مروح