صلاح الدين عووضة يكتب : وحدوووه!

ومن بين ثناياه تتصاعد – مع تصاعد أدخنة مخابر الدراويش – صيحة وحدوووه..

وكنت قد خرجت من مسجد الحسين عقب الصلاة..

ولكن من كان برفقتي لم يخرج… إلى أن كادت روحي تخرج… ويكاد يخرج النهار..

وكلما دلفت إلى المسجد وجدته بجوار الضريح… يتضرع..

واليدان مبسوطتان نحو السماء – كل البسط – والبصر شاخص نحوها..

فكذلك كان يدعو الله عقب كل صلاة… في سرِّه..

ولكن أن يكون الدعاء بجوار ضريح فذاك ما لا أفهمه… ولا أهضمه… ولا أقبله..

أو بالأصح لا يقبله الدين… ورب الدين… ورب الحسين..

ولم يستطع إقناعي بفلسفته الصوفية؛ وعجزت أنا عن إقناعه بفلسفتي المنطقية..

وهذه المنطقية عندي تنبع من منطقية الدين الخاتم..

فلأنه آخر الأديان جعل الله إعجازه في التفكر… والتدبر… والتبصر… والتأمل..

لا في العصا… ولا الناقة… ولا شفاء الأبرص..

وإن كانت هذه وجهة نظري أعرضها فإن له وجهة نظر يعرضها بأفضل مني..

ذلكم هو صديقي الحبيب وراق؛ الموصوف بالعلمانية..

وحين طال بي الانتظار جلست في مقهى لأجعل من مراقبة الناس مصدر تسليتي..

أو ربما كنت أنا مصدر تسلية بعضهم؛ ومنهم ذلكم الدرويش..

فقد كان يحمل مسبحة بيمناه… ومبخرة بيسراه…. ويحملني أنا بنظراته..

ويحين يصيح حيييي أحس بجسدي يرتفع… ثم يهبط..

وشعرت بأن ثمة رابطاً غريباً بينه وبين صديقي الذي بجانب الضريح..

ولا أقول ضريح الحسين بما أنه لا يحوي جسده..

فالمسجد يمكن أن يُسمى باسمه؛ أما الضريح فلا..

وكأنما كان يعنيني شخصياً – دوريشنا هذا – بهمهماته غير المفهومة تلك..

ويصح أن أقول غير المنطقية… وغير الدينية..

وإلى جانب الهمهمات هذه هناك ما أفهمه؛ وما لا أقره من منطلق العقل والدين..

ومنها صرخة مدد يا سيدنا الحسين… مدد..

ثم يفتح فمه على آخره – وحلقومه على اتساعه – ليصيح: وحدوووه..

وبدا لي كأنه انفلت من أحد تكايا حرافيش نجيب محفوظ..

بل وانفلت – بهيئته تلك – من بين ثنايا التاريخ؛ وأسوار ماضي التكايا هذه..

وفي محاولة يائسة مني حاولت صرفه بلحلوح؛ فأباه..

رفض أن يستلمه؛ وأبى كذلك أن يدعني وشأني أتلذّذ بكوب سحلبٍ دسم..

وظل على حاله تلك إلى أن مرّت أمامنا سائحة أجنبية..

وكانت لابسة من غير هدوم تقريباً؛ وتتأرجح على صدرها العاري كاميرا..

والتقطت لي بها صورة عجلى؛ وكانت على عجل..

أو بالأحرى؛ التقطت لنا… ولا أدري أأنا الذي لفت نظرها أم درويش وحدوووه؟..

أما ما لفت نظره هو فالسائحة نفسها؛ وتبعها على عجل..

وطفق يدور حولها… ويُدير مبخرته حول رأسها… ويصرخ حيييي وحدوووه..

ولكنها لم تتضايق مثلي؛ بل بدت سعيدةً تضحك بجنون..

وبعد نحو قرنٍ من الزمان خرج وراق؛ وعلامات الرضا الغيبي على محياه..

ولم يُعر علامات ضيقي من الدرويش على محياي التفاتاً..

وكأنما هنالك علامات تفاهم سرية بينهما… لا تفهمها العقول ذات التفكير الظاهري..

أو التفكير القاصر – في نظره قطعاً – مثل تفكيري..

ومن يدّعي كمال التفكير فقد زكى نفسه؛ وهذا – أيضاً – لا يصح ديناً..

وليس صديقي وراق بالذي أتفلسف عليه..

أو أن أدعي فهماً بالدين – وفي الدين – أعمق منه..

وما أن انضم إلي – وبدأنا في المسير قليلاً – حتى لحق بنا الدرويش..

ولا أدري متى فرغ من السائحة تلك وجاءني على عجل..

وأقول جاءني – لا جاءنا – لأن كل ما يصدر منه كان موجهاً صوبي..

أو بدا لي الأمر كذاك..

الدخان… والنظرات… والهمهمات..

ووحدوووه!.

صحيفة الصيحة

Exit mobile version