“قضية الانتقال إلى الديمقراطية في السودان تقتضي ضرورة الاتفاق السياسي بين قوى الحرية والتغيير والمكون العسكري” (رويترز)
مع اقتراب إعلان التسوية السياسية في السودان الجاري النقاش حولها بوساطة أميركية بين تحالف “قوى الحرية والتغيير” والعسكريين، لإنهاء الأزمة المستمرة أكثر من عام بسبب الانقلاب الذي نفذه قائد الجيش عبدالفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) بحجة إصلاح المسار السياسي في البلاد، يشهد الشارع السوداني ومواقع التواصل الاجتماعي جدلاً كثيفاً حول اتفاق التسوية المرتقب، من جانب أنه يحتوي على نصاً يمنح شكلاً من أشكال الاستقلال والحصانة للجيش من الملاحقاًت القضائية، وهي التنازلات التي من شأنها أن تلغي الالتزامات الواردة في الوثيقة الدستورية التي كتبت بعد سقوط الرئيس السابق عمر البشير.
فما صحة الأمر؟ وكيف ينظر اتفاق التسوية إلى قضية العدالة وطريقة تطبيقها؟ وهل من حق أي جهة سياسية أو عسكرية أن تقرر في هذا الشأن؟
تكرار الجرائم
في هذا السياق، قال مساعد رئيس حزب الأمة القومي السوداني للشؤون الولائية عبدالجليل الباشا، “تعد قضية العدالة وكيفية تطبيقها على أي مستوى من المستويات واحدة من بين ثلاث قضايا أساسية يجري النقاش حولها بين المدنيين والعسكريين لإكمال العملية السياسية، تشمل بجانبها إصلاح المؤسسة الأمنية والعسكرية لتكوين جيش قومي واحد، وإجراء التعديلات المطلوبة حول اتفاق جوبا للسلام من خلال دعم الإيجابيات والتخلص من السلبيات، لكن من حيث المبدأ، لا مجال ولا مكان لعدم تطبيق العدالة بحق كل من ارتكب جرماً، لأن الإفلات من المحاسبة سيؤثر في جانب العدالة حاضراً ومستقبلاً وتصبح البلاد محل انتهاكات باستمرار”.
“بجا السودان” يرفضون “مسار الشرق” ويتجهون للحكم الذاتي
أضاف الباشا، “صحيح أنه على مر التاريخ تعامل السودانيون مع مسألة العدالة من باب (عفا الله عما سلف)، مما أدى إلى تكرار الجرائم ذاتها، بل بصورة أبشع، في وقت لا يملك أي أحد مهما كان موقعه حق العفو أو أي صيغة تقود إلى عدم المحاسبة”. وتابع، “في ما يتعلق بالعدالة، هناك ما حدث من مجازر في دارفور والنيل الأزرق، وهذا أمر يتطلب تطبيق العدالة والمحاسبة ولا يمكن التنازل عنه أو الإفلات من المساءلة، أما في القضايا الأخرى التي حدثت أخيراً مثل فض اعتصام القيادة العامة للجيش التي راح ضحيتها نحو 200 قتيل وعشرات المصابين والمفقودين، وقتل المتظاهرين وغيره، فقد طرح موضوع الحصانة للأفعال غير المباشرة، بمعنى أن تطاول العدالة من قام بالتنفيذ المباشر، لكننا نقول إن العدالة تطاول كل من أسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في ارتكاب أي جريمة ضد أي مواطن سوداني”.
تجارب عديدة
وواصل مساعد رئيس حزب الأمة القومي قائلاً، “قضية العدالة مبدئية لا تتجزأ، وهناك تجارب عديدة يمكن الاستهداء بها، فما يشهده السودان حالياً ليست التجربة الأولى، فالعالم مليء بمثل هذه التجارب المتعلقة بتطبيق العدالة الجنائية والعدالة الاجتماعية، فما ورد في الإعلان الدستوري لنقابة المحامين السودانيين الذي يتم النقاش حوله يدعو إلى المحاسبة على كل المستويات من خلال تكوين لجان تحقيق وصولاً إلى الجناة ومحاكمتهم، فالآن يجري البحث عن صيغة تحقق العدالة من خلال إيجاد معادلة تؤدي إلى تحقيق الاستقرار أيضاً”.
دستور دائم
إلى ذلك، قال المحامي السوداني عبدالله آدم عمر إن “قضية الانتقال إلى الديمقراطية في السودان تقتضي ضرورة الاتفاق السياسي بين قوى الحرية والتغيير والمكون العسكري، ويشمل ذلك تعديلات دستورية وإعادة توزيع السلطة والنفوذ في المجتمع وتوسيع دائرة المشاركة فيها مع إعادة هيكلة الجوانب السياسية والعلاقات الاجتماعية، وإعادة صياغة العلاقات بين الدولة والمجتمع، وبين المركز في العاصمة والهامش في الأطراف ليصل الجميع لنظام سياسي جديد تتضمن عناصره إعداد دستور وتشريعات منظمة للحياة السياسية، فضلاً عن إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، ويمثل استكمال البناء الدستوري لسلطات الدولة نهاية عملية الانتقال”. أضاف، “من الضروري مراعاة خصوصية عملية الانتقال الديمقراطي، فلكل بلد ظروفه السياسية والاجتماعية، وعلى عاتق السودانيين الساعين إلى التغيير أن تشق بلادهم طريقها وتعيش تجربتها في ما ينبغي عمله وما يجب عدم القيام به، ولا سيما تكييف العلاقات المدنية – العسكرية، إذ لازمت هذه القضية عجز الحكومات السودانية المتتالية، سواء كانت مدنية أو عسكرية، في وضع دستور دائم يتعاهد الناس عليه، باختلاف أطيافهم السياسية ومشاربهم الفكرية، ثم يتواضعون على مرجعيته الثابتة في حل نزاعاتهم، لكن لا مجال لإيجاد الاستقرار السياسي القائم على التسامح الوطني عبر مؤسسات ديمقراطية راشدة إلا بواسطة اتفاق سياسي يجسد قضايا الثورة السودانية المتمثلة في شعاراتها: حرية سلام وعدالة”.
الضرر بالعدالة
وتابع المحامي عمر، “ليكن واضحاً للجميع أن التسوية السياسية المرتقبة لا تشمل قضية الضمانات التي سببت الضرر بالعدالة ومخافة الإفلات من المحاسبة والمساءلة، فتاريخياً منذ أحداث عمبر جودة وضحاياها الأبرياء، وشهداء ثورة أكتوبر 1964، مروراً بأحداث الجزيرة آبا وضحاياها، وحروب دارفور والنيل الأزرق وجبال نوبة، كانت التسويات السياسية تمر مروراً خجلاً على قضية العدالة، وقد يصل الأمر إلى درجة الإفلات من المحاسبة والعقاب من دون معرفة حقيقة ما جرى. أما هذه المرة، فإن قضية العدالة والمحاسبة، وفي ظل جرائم فض اعتصام القيادة العامة والقتل خارج القانون الذي جرى في الفترة الأخيرة، لن تمر مرور الكرام”.
وقال أيضاً، “مسألة التسوية المرتقبة في جانبها السياسي مسؤولية مفاوضي قوى الحرية والتغيير والعسكر، أما في شأن مسألة العدالة، فيصعب على أي قوى مناقشة إمكان الاتفاق على العفو من دون معرفة الجاني لأن الجريمة والعقوبة متلازمان ولا يمكن بيان العدالة في العقوبة إلا بالإشارة إلى مقدار الجريمة، فيكون العقاب شديداً إذا كانت الجريمة شديدة في آثارها وفي الأذى الذي وقع على المجني عليه، بالتالي، لا مجال لقبول فكرة أن الرحمة فوق العدل”.
وحض المحامي السوداني مفاوضي الطرفين، من المدنيين والعسكريين، على مراعاة إشكالية المواقف الأخلاقية في حل المشكلة السياسية الراهنة، “باعتبار أن الرحمة الحق لا ينطوي في ثناياها ظلم، والتسامح الحق هو الذي يكون عند المقدرة ولا يعين ظالماً ولا يطوي باطلاً”، لافتاً إلى أن “القانون الجنائي السوداني لعام 1991 نص على أن جرائم القصاص وتلك ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم وليست متصلة بالتسويات السياسية، ومن المؤكد أن طرفي الاتفاق السياسي المرتقب على وعي تام بذلك”.
إسماعيل محمد علي
إندبندنت عربية