البعض يعتقد أن أي حديث عن الفقه الإسلامي هو خروج عن الإسلام، وتعدي على ثوابته في حين أن هذا الفقه ازدهر واتسع بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد الخلافة الراشدة، فمعروف أن هذا الفقه وظهور مدارسه ومذاهبه الفقهية لم يدر عنها رسولنا الكريم، ولم يدر عنها خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم مما يعني أن هذا العلم سبب تطوره وازدهاره ليست مصادر الإسلام الأساسية القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وإنما سبب تطوره هو اتساع رقعة الإسلام، وكثرة دخول الناس في الإسلام، وتغير أحوال الناس كسنة من سنن الحياة.
وهذه الأسباب جميعها أتت بعد عصر الخلافة الأول كنتاج طبيعي لدين هو خاتم الأديان. دين مرسل للناس جميعا بمختلف جهاتهم وسحناتهم وتقاليدهم وثقافاتهم.
أرسل هذا الدين من رب العالمين، وبالتالي قطعا ستتكيف كل هذه المستجدات معه.
لذلك لا بد من العمل والاجتهاد المستمر في هذا العلم علم الفقه الذي يربط هذه الأمة بدينها.
فإن كان علم الطب الذي يعالج الناس من أمراضهم الجسدية يتطور لحظة بلحظة بسبب الاكتشافات العلمية، فكذلك الفقه الإسلامي لا بد أن يتطور لحظة بلحظة حتى يظل الناس متمسكين بدينهم.
أما عدم وجود علماء أو عدم وجود فقهاء بحجم الفتيا ومخاطرها، فهذا ليس عذرا، ولن يحمي الناس من مخاطر العصر عليهم.
إن النقطة الأساسية التي ينطلق منها هذا العمل الذي يتمثل في تجديد الفقه الإسلامي هو أن هذا الدين جيء به ليكون صالحا لكل زمان ومكان
بمعنى أن يخشع الناس، وأن يظلوا متمسكين بدينهم مع تطور الحياة ومع تطور العالم في جميع مجالات العلم.
فالأسرة ستظل هي الأسرة التي ينادي بها الإسلام من تمسك بتعاليم الدين ومن حرمة وقداسة لها. يتدخل الفقه ليحافظ على كيان الأسرة وسط التطور الهائل للاتصالات وغيرها من العلوم، فأي عجز أو ضعف للأسرة بسبب التطور الهائل لوسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من العلوم ليس سببه مقاصد هذا الدين وإمكانياته، وإنما سبببه تعطيل الفقه الإسلامي الجهة المنوط بها ربط الدين بحياة الناس وبقضاياهم.
الدولة كذلك هي التي ترعى الإسلام، وهي التي ستظل الحامي له، وبالتالي لا بد من أن تخدم هذه الدولة الدين مستصحبة كل المؤسسات التي طرأت عليها بحكم تقدم الزمن لا بحكم تغير المعايير والأهداف.
المعايير والأهداف ثابتة لم ولن تتغير، فليس ثمة قرآن جديد أو حديث نبوي جديد، وإنما التغيير ينحصر في ارتباط ما هو جديد بما هو أصيل وثابت في هذا الدين.
لعل من المواضيع التي طرأ عليها تغييرا وكانت فعالة جدا قبل تطور الاتصالات هو موضوع (الإخفاء) فكثيرا ما يورد علماء الفقه أنه ليس من المفيد إطلاقا أن يخبر العامة بمواضيع هي من خصائص الحاكم.
ليس من المفيد إطلاقا أن يخبر العزاب بمواضيع هي من خصائص المتزوجين.
ليس من المفيد إطلاقا أن يخبر الأطفال بأمور هي من خصائص الكبار.
ليس من المفيد إطلاقا أن يخبر الأبناء بأمور هي من خصائص الآباء والأمهات.
ليس من المفيد إطلاقا أن يخبر التلاميذ بأمور هي من خصائص المعلمين.
هذا الأسلوب على سذاجته اليوم إلا أنه كان فعالا وعمليا لأبعد درجة في العهد الذي كانت مصادر المعرفة محدودة لأضيق حد.
فما أن يأتي شخص لفقيه يستفتيه عن قضية من القضايا إلا ويذكر له ما يخصه فقط أما ما لا يخصه يخفيه عنه، وقد ينجح الفقيه في ذلك.
ومن سأل يمارس دينه على أكمل وجه رغم جهله بالجانب الآخر من الفتيا بسبب أنه لا يخصه، وفي ذات الوقت محدودية مصادر المعرفة، فلن يحصل على مشهد منه في الفيس أو قوقل هذا إذا تجاوزنا المشاهد الإباحية التي يصعب التحكم عليها بسبب تطور اكتشافات الاتصال السريعة، وسيطرة من لا دين له عليها .
مع قوقل اليوم ومع الفيس بوك ومع التويتر والاستغرام والتيك توك لم يعد هذا الأسلوب أسلوب (الإخفاء) فعالا على الإطلاق.
هذا الأسلوب الذي اتبعه الفقهاء في مرحلة من مراحل الحياة البشرية ليس له علاقة بمصادر الدين من القرآن الكريم والسنة الشريفة، فهذان المصدران لم يتركا شاردة ولا واردة إلا وبينتا حكم الدين فيها، وإنما هذا الأسلوب كان خاصا بمرحلة من مراحل الحياة لم تكن فيه المعلومات مشاعة للجميع، فاستفاد الفقهاء من هذه الميزة، وأشارت إليهم فطنتهم وذكاؤهم أنه ليس من المهم إقحام شخص لموضوع لا علاقة له به.
هذه الميزة (ميزة الإخفاء) لعبت دورا كبيرا في تحديد ملامح نشاطهم الفقهي.
أما اليوم فلم يعد مجديا على الإطلاق أن يخفي خطيب المسجد مثلا نشاطات ومواقف الحاكم، وهي معلومات متاحة لحظة بلحظة لكل صغير وكبير.
هذه النشاطات والمواقف من قبل الحاكم ليس فقط أصبحت معلومات مكشوفة للكل بل أصبحت تشكل حياة المواطن واهتماماته وقضاياه اليومية.
فإن ولي الحاكم وجهه شطر (الروس) مثلا، فإن المواطن البسيط أصبح يدرك تماما ماذا تعنيه هذه الزيارة بالنسبة له، فيظل يتابعها ويتعرف بكل سهولة على نتائجها من أقرب جهاز تلفون حوله، وسوف يكتشف بكل بساطة هل نجحت هذه الزيارة أم رجع حاكمه منها بخفي حنين.
وكذلك إذا زار مصر أو أمريكا أو تركيا، فكل حركات وسكنات الحاكم أصبحت معلومة، ومؤثرة في حياة المواطن في نفس الوقت.
بهذا العالم الجديد الذي أفرزته ثورة الاتصالات لم تعد المناصحة للحاكم من قبل الفقيه في مجالسه الخاصة كما كان معمول بها في السابق لم تعد فعالة، وذات جدوى وذلك لعدة أسباب.
الأول: ممارسة الحاكم لم تعد مخفية لأحد، وهل بالإمكان إخفاء عمل معلوما لدى الجميع؟
وذلك بفضل اكتشاف وتقدم وسائل الاتصالات على جميع الأصعدة.
وبما أن هذا التطور في وسائل الاتصالات فرع من فروع العلم، فلن يتعارض إطلاقا مع ديننا دين العلم، وإن حدث ثمة تعارض، فهذا يعني جهلنا بهذا الدين.
الثاني: هذه الأعمال التي يقوم بها الحاكم ليست تهم الحاكم فقط بحيث تزيل أو تحافظ على حكمه بل أصبحت تمس كل تفاصيل المواطن في جميع الخدمات التي يحتاج إليها.
الثالث: أن الإسرار بين الحاكم والفقيه أصبح لا يخلو من شك وريب تجاه الفقيه الأمر الذي أصبح مخالفا لما هو متعارف عليه في الماضي إذ كانت تشير في السابق إلى إئتمان الفقيه، وإلى ثقة الحاكم بأن هذا الفقيه لن ينشر أمره على الآفاق.
هذه المخاصصة النبيلة والشريفة بين الفقيه والحاكم لم تعد موجودة بسبب أنه لم يعد هناك سرا يخفى، فالتطبيقات عبر النت صارت تكشف، ف(قوقل) لا يقصر، فقد حول الحياة بكل مجالاتها إلى كتاب مفتوح متاح للجميع.
إن الفقه لا بد ان يكون مواكبا لما هو قائم ومعاش اليوم سواء سياسيا أو أخلاقيا ليس من باب نصرة هذا الفرع الأصيل من فروع الدين الإسلامي بقدر ما هو محاولة لانتشال مسلم هذا العصر وكل عصر من التوهان والضياع الذي قد يعيشه من دون شعلة يحملها على يده ليل نهار.
صحيفة الانتباهة