لماذا تسعى الأحزاب السودانية إلى اختراق صفوف الجيش؟

باب جديد من الجدل فتحه خطاب رئيس “مجلس السيادة الانتقالي” القائد العام للجيش السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان في منطقة حطاب، حين طالب القوى السياسية بالابتعاد عن الجيش، فهل المطلوب أن ينأى الجيش عن السياسة أم تبتعد الأحزاب عن الجيش السوداني؟ مما يطرح سؤالاً جوهرياً حول طبيعة العلاقة بين الجيش والأحزاب السياسية في السودان.

وحذر البرهان موجهاً حديثه إلى السياسيين صراحة بصيغة الأمر، “ابعدوا عن الجيش، الجيش ما حق زول” أي ليس ملكاً لشخص، متابعاً “الجيش لن يحمي حزباً أو فئة، ولن يسمح أن يكون مطية لأحد يسعى من خلاله إلى الوصول للسلطة”، لكن في الوقت الذي يطالب فيه السياسيون الجيش بالنأي عن المعترك السياسي، يطالب الأخير الأحزاب بالكف عن محاولات اختراقه المستمرة حتى اليوم، فما المطلوب من كل طرف؟

تاريخ من الاختراقات

ليست المرة الأولى التي يتحدث فيها الفريق البرهان عن اختراق الجيش وسعي الأحزاب إلى زرع خلايا لها داخله، إذ قال في المقابلة التي أجراها معه التلفزيون القومي الرسمي، في فبراير (شباط) 2022، “إن أحزاباً سياسية شكلت خلايا داخل المنظومة العسكرية بالبلاد”، مضيفاً “نلاحظ أن هناك خلايا لبعض الأحزاب في الجيش، وكل الانقلابات التي جرت بالسودان لم تقم بها القوات المسلحة من تلقاء نفسها”، مشيراً إلى أن هناك جهات (من دون تسميتها) تسعى وتحاول أن تتصل وتتواصل مع بعض منسوبي المؤسسات العسكرية.

وتمتد جذور ظاهرة سعي الأحزاب إلى اختراق صفوف القوات المسلحة إلى ما بعد استقلال السودان، وليست وليدة أجواء ما بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) فقط، إذ تثبت الوقائع التاريخية أن الخلايا الحزبية داخل الجيش تمكنت في محاولات انقلابية عدة (فشل بعضها)، من النجاح ثلاث مرات في إطاحة النظام التعددي الديمقراطي، بإيعاز من الأحزاب نفسها، فلماذا تسعى الأحزاب السياسية دوماً إلى اختراق الجيش السوداني، الجرح القديم المتجدد؟ وكيف تتجاوز البلاد هذه الظاهرة التي ظلت ملازمة لتاريخها السياسي؟

قبل انقلاب 1989، بواسطة خلية حزب الجبهة الإسلامية القومية داخل الجيش، الذي أطاح الحكومة المنتخبة برئاسة الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي صاحب الغالبية البرلمانية آنذاك، سرعان ما بدأ عهد الإنقاذ الجديد عمليات تسريح ضباط لا يدينون له بالولاء، في عملية أشبه بالتنظيف القائم على الولاء من عدمه وإحلال موالين لنظام عمر البشير الجديد، وهي العملية التي تستهدف إصلاح المنظومة الأمنية وإعادة التوازن للجيش.

وحصل الانقلاب الأول في عام 1958، حين سلم رئيس الوزراء وقتها عبدالله خليل المنتمي إلى حزب الأمة القومي، السلطة إلى قائد الجيش الفريق إبراهيم عبود، ليحكم البلاد طوال ست سنوات، وأطاحته انتفاضة شعبية في أبريل (نيسان)، وتشكلت بعدها حكومة ديمقراطية، ثم مرة أخرى نجحت خلية من الشيوعيين والقوميين العرب، في إطاحة النظام الديمقراطي في مايو (أيار) بقيادة المشير جعفر محمد النميري في عام 1969.

آفة حزبية

في السياق، وصف مبارك الفاضل رئيس حزب الأمة اختراق الأحزاب للجيش بأنها آفة الأحزاب العقائدية في السودان، فالحزب الشيوعي نفذ انقلاب جعفر النميري في مايو 1969، تبعتها محاولة انقلاب ما يعرف بالحركة التصحيحية على النميري نفسه، بقيادة هاشم العطا وبابكر النور وعبدالخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي عام 1971، والتي أدى فشلها إلى تنفيذ النميري مذبحة ضد قادة الحزب الشيوعي، إلى جانب انقلاب خلية الجبهة الإسلامية القومية بقيادة حسن الترابي الذي نفذه البشير عام 89، ومحاولة انقلاب البعثيين في رمضان 1990.

أضاف الفاضل “الأحزاب العقائدية تنظيماتها شبه عسكرية ولا تؤمن بالديمقراطية، لذلك تعمل على تجنيد ضباط في الجيش بل تدفع كوادرها إلى الالتحاق به، ويكون لها مكتب خاص لاختراق الأجهزة، لكن المشكلة هي أن العسكري المنظم عقائدياً تتغلب عليه التربية العسكرية فينتهي به الأمر إلى تصفية قادة حزبه كما فعل النميري بالشيوعيين والبشير بكل من حسن عبدالله الترابي وعلي عثمان محمد طه، لكنهم للأسف لا يتعظون”. وقال “كذلك تتميز الأحزاب العقائدية بقياداتها الصفوية التي درجت على عدم احترام الشعوب واعتبرتها متخلفة، وأنها وحدها الأحق بحكمهم، لذلك دائماً ما تنعت الأحزاب الوطنية بالرجعية والطائفية، على رغم أنها أحزاب تمثل المجتمع بتركيبته”، وطالب الفاضل بضرورة إيجاد إجراءات تصعب الانقلاب عسكرياً وسياسياً، وحظر تلك العقائدية حتى لا تستغل الحريات.

وعن كيف يحصن الجيش نفسه من التغلغل والاختراق بواسطة الخلايا الحزبية، رأى رئيس حزب الأمة أن الأمر يحتاج إلى تكثيف التوعية والتثقيف وصولاً إلى التدقيق في خلفية الطلاب المتقدمين للالتحاق بالكلية الحربية.

السلطة عبر الخلايا

على الصعيد نفسه، عزا المحلل الأمني اللواء دكتور أمين مجذوب إسماعيل تعلق الأحزاب السياسية بالقوات المسلحة لعدم جاهزية تلك الأحزاب للحكم، كونها لا تملك مشروعاً ولا برنامجاً وطنياً نهضوياً تخوض على أساسه الانتخابات، وتعجز أيضاً عن إدارة عمليات الاستقطاب الذكي للناخبين، لذلك يلجأ معظم هذه الأحزاب، بل لجأ بالفعل، للوصول إلى السلطة عبر انقلاب تنفذه خلاياها داخل القوات المسلحة. وتابع “أولى الخلايا الحزبية التي وجدت في الجيش السوداني كانت تتبع لحزب الأمة، ذلك أنه عندما نال السودان استقلاله كان معظم الضباط بالجيش ينتمي للأحزاب الاستقلالية، وعدد آخر كان ينتمي إلى الأحزاب الاتحادية التي تنادي بالوحدة مع مصر”، مشيراً إلى أن أول اختراق للجيش تجسد في العملية التي قام القائم مقام وقتها (رتبة عميد حالياً)، عبدالله خليل رئيس الوزراء المنتمي إلى حزب الأمة القومي، خلالها بتسليم السلطة إلى القوات المسلحة، ليتولاها الفريق إبراهيم عبود عندما شعر بمحاولة سحب الثقة منه لصالح غريمه السياسي الحزب الاتحادي الديمقراطي.

واستطرد المحلل الأمني “شهدت فترة حكم الفريق عبود التي امتدت ست سنوات فقط ثلاث محاولات انقلابية، تبعها إجراء تعديلات عدة على المجلس الأعلى للقوات المسلحة (صاحب السلطة السيادية وقتذاك)، نتيجة احتجاج الحزب الاتحادي الديمقراطي على استئثار ضباط حزب الأمة بالغالبية في تشكيل المجلس مما تطلب توازنات حزبية عسكرية”.

اختراق تلو الآخر

أما الاختراق الثاني، وفق إسماعيل، فقد كان بعد ثورة أكتوبر (تشرين الأول)، وطرد الحزب الشيوعي ونوابه من البرلمان بسبب ما عرف بحادثة “بيت المعلمين” الشهيرة بحادثة “العاجكو”، ومن ثم لجأ الحزب إلى عناصره وخلاياه داخل القوات المسلحة من القوميين العرب والشيوعيين، فكان انقلاب مايو 1969 بقيادة اللواء جعفر محمد النميري.

ولم تتوقف الدوامة عند هذا الحد، إذ بعد سقوط النميري، وتشكيل حكومة ديمقراطية ثالثة، وعلى النهج ذاته، نتيجة استشعار حزب الجبهة الإسلامية القومية بزعامة حسن عبدالله الترابي، محاولة إبعاده من الحكومة القومية عبر مذكرة القوات المسلحة الشهيرة والحكومة الائتلافية بين حزبي الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي، لجأ الحزب إلى تحريك خلاياه داخل الجيش لتستولي على السلطة عبر انقلاب عمر البشير في 30 يونيو (حزيران) 1989، فيما عرف بفترة “الإنقاذ” التي استمرت 30 عاماً حتى سقوطها بثورة ديسمبر 2018 الشعبية.

لا تزال مستمرة

ولاحظ المحلل الأمني اللواء إسماعيل أنه حتى بعد ثورة ديسمبر 2018 لم تتوقف محاولات اختراق الجيش بواسطة الأحزاب الموجودة الآن على الساحة السياسية، إذ يبدو أن كل تنظيم أو حزب ما زال يسعى إلى أن تكون لديه خلاياه داخل القوات المسلحة، مما دفع الفريق عبدالفتاح البرهان القائد العام للجيش إلى إعلان تحذيراته الصريحة بتحديد الجهات التي يطالبها بالابتعاد عن القوات المسلحة والكف عن محاولة اختراقها، مشيراً إلى أن الأحزاب السودانية تقتدي بتجارب إقليمية محيطة عربية وأفريقية كنموذج للوصول إلى الحكم عبر خلاياها داخل الجيش.

ودعا المحلل الأمني الأحزاب السياسية السودانية إلى أن تلتفت في هذه المرحلة الحساسة التي يمر بها السودان، إلى عقد مؤتمراتها وترتيب أوضاعها الداخلية استعداداً لانتخابات ما بعد الفترة الانتقالية المرتقبة، متمنياً أن تبتعد فعلاً عن الجيش.

قانون الجيش

بدوره، شدد القيادي الإسلامي مستشار رئيس حركة “الإصلاح الآن” أسامة توفيق على ضرورة ابتعاد الجيش عن السياسة والتزامه بكونه مؤسسة قومية، على رغم عدم توقف مساعي القوى السياسية في اليمين أو اليسار لاختراق صفوف الجيش، لأن قانون القوات المسلحة ينص على حياد القوات المسلحة وابتعادها عن المعترك السياسي.

وأشار توفيق إلى أن اتهام أحزاب بعينها باختراق الجيش ينبغي ألا يكون حديثاً مرسلاً وظنياً، فإن كان الأمر جلياً وواضحاً بمعنى أن هناك خلايا حزبية تم ضبطها داخل الجيش، فيجب في مثل هذه الحال أن تتم محاكمتها علناً، وعلى قائد الجيش أن يحسم هذا الوضع بموجب قانون القوات المسلحة، أما إذا كانت الاتهامات ظنية فلا ينبغي على قائد الجيش أن يطلق تحذيراته على هذا الأساس فقط.

غياب الحسم

ولفت القيادي الإسلامي إلى أن عدم حسم ظاهرة الاختراق السياسي لصفوف الجيش أسهم في استمرارها، إذ إن من الطبيعي أن تقوم كل جهة بدورها ووظيفتها حتى لا تختلط الأدوار والوظائف بين الحياة السياسية والمهام العسكرية.

وكان الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان قال إن القوات المسلحة لا تعمل لمصلحة أي حزب أو جماعة أو فئة سياسية وإنها تدافع عن السودان وأمنه ووحدته واستقراره. وحذر، في خطاب له مطلع شهر نوفمبر (تشرين الثاني) أمام حشد من الجنود بمنطقة حطاب العسكرية شمال الخرطوم، الذين يسعون إلى التخفي وراء الجيش في حديث مباشر لحزب المؤتمر الوطني (المحلول) وللحركة الإسلامية، من أن يبتعدوا عن القوات المسلحة ويرفعوا أيديهم عنها، لأنها لن تسمح لهم أن يعودوا من خلالها إلى السلطة من جديد.

وامتدت تحذيرات البرهان أيضاً إلى من اتهمهم بقيادة حملات تحريضية ضد القوات المسلحة ويسعون إلى تفكيك الجيش بالبعد عنه.

إسماعيل محمد علي
إندبندنت عربية

Exit mobile version