من حيث المبدأ سيظل الحوار والتفاوض وتجنب العنف وسفك الدماء دائما هو الخيار المفضل لحل الأزمات. لكن من الضروري والهام جدا التفريق بين الحوار الذي يخاطب جوهر الأزمة ويسعى لعلاجها، والحوار الذي يفضي إلى حلول تصالحية سطحية، أو تسوية، لا تخاطب هذا الجوهر، بل تكتفي بالتعافي المتبادل واختصار الحل في اقتسام كراسي السلطة، علما بأنه في هذه الحالة، فمن المؤكد إعادة إنتاج الأزمة. ومعيار نجاح أي حوار أو تفاوض هو أن يؤدي إلى التوافق على فترة انتقالية مهمتها الأولى هي التصفية النهائية لأشكال الحكم القائم التي قادت للأزمة، وتكوين أشكال جديدة يقننها دستور ديمقراطي يصون حقوق الجميع ويجنب البلاد كوارث الصراعات الدموية والحروب الأهلية. صحيح أن محصلة أي حوار أو تفاوض تخضع لقانون المساومة وتوازن القوى، ولهذا السبب تحديدا فإن قصر الحوار على النخب السياسية فقط وداخل الغرف المغلقة بعيدا عن جموع الناس، سيجعل ميزان القوى يميل لصالح المجموعة المتنفذة، وأقصى ما سينتهي إليه الحوار أو التفاوض هو اقتسام كراسي السلطة، وتجاهل مطالب الشارع، مما يعني استمرار الأزمة. فقط وحده الحوار والتفاوض في الضوء، وبعيدا عن العتمة المنشطة لمساومة الصفقات الفوقية، وتحت أعين ورقابة الجماهير، يمكن أن يأتي بنتائج إيجابية لصالح حل الأزمة. وفي النهاية فإن أي نتائج أو اتفاقات أو تسوية لا تستجيب لما ظل ينادي به الشارع لأكثر من عام، ستفاقم من الأزمة وتدفع البلاد إلى منعرجات خطيرة. تحت وطأة نظام الإنقاذ البائد، عانى الإنسان السوداني من تدهور قدرته على توفير أساسيات الحياة، وليس هنالك ما هو أشد فتكا على الإنسان من فقدان هذه القدرة. ولاستعادتها، كان لا بد من فترة انتقالية تؤسس لنظام جديد يعزز ويصون كرامة الانسان، ويوسع من قدراته وخياراته وفرصه، ويحقق حريته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا سيما بالنسبة لأكثر أفراد المجتمع فقرا وتهميشا. ومعروف أن فلسفة فترات الانتقال، تتلخص في كونها تتيح للجميع، بمختلف رؤاهم السياسية والفكرية، التوافق على برنامج أو مشروع وطني يعبّد مداخل وطرق تحقيق حلم كسر الحلقة الشريرة المتحكمة في السودان من فجر استقلاله، ويضع البلاد على منصة تأسيس جديدة، ترسي دعائم بناء دولة وطنية حداثية. ولكن، ما نشهده اليوم في المسرح السياسي السودان لا علاقة له البتة بفلسفة الانتقال هذه، وفي الحقيقة هو لا علاقة له بأي فلسفة إلا إذا كان للفشل والخيبات فلسفة. وللأسف، هذا المشهد الراهن تكرر في كل تجارب الانتقال التي مر بها السودان منذ أن نال استقلاله، والتي جميعها انتهت بكارثة ضحيتها الأولى الشعب والوطن. إثنتان من تلك التجارب الفاشلة انتهت بتسلط أنظمة عسكرية شمولية على البلاد في عامي 1958 و1969. تحت وطأة نظام الإنقاذ البائد عانى الإنسان السوداني من تدهور قدرته على توفير أساسيات الحياة، وليس هنالك ما هو أشد فتكا على الإنسان من فقدان هذه القدرة وتجربة فاشلة ثالثة، أفضت إلى تسلط نظام إرهابي في عام 1989، رفع المصاحف والإسلام شعارا وآيديولوجية، لكنه في الواقع ظل يعمل بهمة عالية على تمكين الفساد والاستبداد، واستباحة الوطن لصالح المصلحة الحزبية والشخصية، وترك آثارا مدمرة على البلد والناس، يبدو أننا سنحتاج إلى وقت طويل حتى نتخلص منها. أما التجربة الانتقالية الفاشلة الرابعة، 2011، فأفضت إلى انشطار البلد الموحد إلى بلدين. ويكفي النظر إلى حال السودان اليوم مقارنة بالدول الإفريقية التي نالت استقلالها بعده بعدة سنوات، وكيف أن هذه الدول، ومعظمها ذات موارد ضعيفة مقارنة بالسودان، تخطته وبمسافات بعيدة، تاركة إياه في حفرة التخلف والنزاعات الدامية. وعلى الرغم من كل هذا الفشل وهذه الخيبات، لم ترعوِ النخب السياسية. فها هي اليوم، وهي تعيش الفترة الانتقالية الخامسة، تتعثر مثقلة الخطى وترسل الإشارات المرتبكة والمتناقضة، فيتمكن منك القلق والخوف لأن كل المؤشرات تقول إن الفترة الإنتقالية الخامسة هذه تتجه أيضا صوب الفشل، وإن النخب والقيادات الفاعلة، في الحكم أو الساعين له، مدنيين أو عسكريين، يديرون السياسة وكأن بصيرتم عميت، أو تغيبوا عن دروس تاريخ السودان الحديث، فلم يعوا أو يتعلموا أو يفهموا من فترات الانتقال الأربع السابقة دروس الفشل ونتائجها الكارثية، ولا يعون أن متراكم الفشل والخيبات سيدفع البلاد وأهلها إلى الكارثة الكبرى. ومع ذلك، فإن هذا الفشل ليس قدرا محتوما لا فكاك منه، بل من الممكن التصدي له بالحراك في الاتجاهات المتعددة حتى تتقاطع الخطوط وتنتج فعلا مقاوما له وضد محاولات بناء الوطن برؤية أحادية، ومحققا لرؤية المشروع الوطني الجامع، والجملة المفتاحية هنا هي وحدة قوى الثورة واتباعها التاكتيكات الواقعية، بعيدا عن الشعارات الهلامية والتقديرات الذاتية والرغبوية. إن الأزمة التي تعصف بالسودان اليوم حد الانحدار إلى الهاوية، تفترض أن يأخذ الفعل السياسي خلال ما تبقى من الفترة الانتقالية الراهنة منحى جديدا. فتتوحد الجهود بدل تشتتها، لتسير في مجرى الفعل السياسي الجماعي القادر وحده على دحر انقلاب 25 أكتوبر 2021، واقتلاع جذور نظام الإنقاذ البائد، وخلق بديل جديد يرسخ الديمقراطية التي يترعرع وينمو فيها إحساس الحرية والعدالة والكرامة، تحت مظلة التنوع والتعدد السياسي والعرقي والثقافي، ويتفجر التعامل الإيجابي والخلاّق مع هذه المظلة، بعيدا عن فكرة الأغلبية والأقلية النشاز. أما مشوار إعادة بناء الوطن، فيبدأ بجلوس أبناء السودان جميعهم، عبر أجسامهم السياسية والاجتماعية والثقافية والقبلية المختلفة، لرفع سقف القواسم المشتركة بينهم وتحديد الفواصل الضرورية بين جهاز الدولة والنظام السياسي الذي يحكم، حتى نمنع إطلاق يد فرد أو فئة لتطيح بالآخرين وتنفذ فيهم ما يعشعش في رؤوسها من أوهام، ولنتوافق على معالجة اقتصادية تخرج الفقراء من دائرة العوز ونعيد بناء أمة متوحدة على المبادئ التي تضع الإنسان والقيم الإنسانية فوق كل اعتبار، فتجسد وتسيّد قيم الحرية، والعدل، والمساواة، والمواطنة وحقوق الإنسان، والعلم والمعرفة والتحديث، وحب العمل وإنجاز التنمية المستدامة.
صحيفة اليوم التالي