مع تزايد الشكوك حول نوايا قيادة المكون العسكري حيال خيار (الضرورة ) للأزمة السياسية الراهنة ، أهو بالذهاب إلى تسوية ثنائية مع فصيل واحد كالذئب الأغبر، أم تجميع أطراف متنوعة من القوي السياسية ، لتشكيل حكومة الفترة الإنتقالية غير المحددة النهاية ، و الإيفاء بما جاء في قرارات 25 اكتوبر 2021 م و الرابع من يوليو 2022 م ؟
يبدو أن الأوضاع برمتها لا تسير وفق مُشتهي و مُراد أطراف محلية و إقليمية و دولية ، نتيجة لتفاعلات الداخل السوداني و آخرها تظاهرة الكرامة 29 اكتوبر 2022م و رسالتها الواضحة و إنتفاض التيار الوطني بعد صبر و مصابرة و زمنٍ مهدور ، فالجيش الذي سيخرج من العملية السياسية كما إلتزمت قيادته ، لن يستطيع من الآن جر الحركة السياسية من أعنتها و خطامها ، فها هي القوي الحقيقية الحية تضع خياراتها بين مربع حبال الحلبة و لا يهمها في الساحة السياسية صراخ الغربان ..
لقد كان المكون العسكري حتي وقت قريب يمتلك خياراً واحداً يحظي بتأييد السودانيين عقب قرارات 25 إكتوبر2021 بتكوين حكومة مبرأة من اللوثة الحزبية ، قوامها كفاءات مقتدرة لا منتمية تدير الفترة الإنتقالية حتي نهاياتها ، بينما تذهب الأحزاب الطامحة في السلطة إلى المضمار السياسي إستعداداً للإنتخابات ، كان هو الخيار الأفضل و الأكثر ملاءمة ، لكن ما جري عكس ذلك تماماً و إنقلب المكون العسكري علي عقبيه ، فلم تتكون الحكومة المرجوة و لا حُسمت الأوضاع ، تُركت علي لزوجتها حتي إنزلقت البلاد إلي جحر الأفعي الدولية .
بتلقف ما يسمي بالألية الثلاثية لملف الازمة ، ثم تلتها الرباعية وهي تقحم نفسها عنوة وتحشر أنفها ، تطاولت الأزمة و تعقد الوضع السياسي ، حتي أصبح الجميع في إنتتظار ( جودو ) الخارج ، يترقبون ولادة الحلول السحرية علي أيدي قابلات اللقاءات الليلية للسفارات الأربع . .
مع أن الأزمة وصلت عنق زجاجتها ، و تقف عند الحُنجُرة الملتهبة ، فإن قيادة الجيش و هي تتخلي عن خيارها الأساس الذي عليه بنت توجهاتها السابقة و وعودها المقبولة من غالب الأطراف الداخلية و كثير من قوي الخارج ، ليس لدي المكون العسكري فرص متاحة لإحداث توازن ، في حال تأرجح بين الخيارين المتبقيين و هما : أما السقوط في مستنقع التسوية السياسية و التلوث بمائه الآسن ، أو حياكة جُبة واسعة مزركشة الألوان ، مرقعة كجُبة الدرويش ، تتكون من قوي سياسية مختلفة و متخالفة تعطي فقط بصيص من ضوء ضئيل وسط حالكة داهمة .
إذا كان خيار التسوية الثنائية مع ( قحت – المجلس المركزي ) و هو أوهي من خيط عنكبوت الألية الثلاثية و المجموعة الرباعية التي نسجته ، فهو خيار خاسر بإمتياز ، تؤيده بعض الدول الغربية غير الحريصة علي الإستقرار و التحول الديمقراطي ، بقدر حرصها علي توجهاتها لتمزيق ما تبقي من السودان و دعم عملائها بالداخل و تجسير مهمتهم في تفتيت عُري البلاد وهتكها و نشر القيم الغربية الآفلة ، و التحكم في ثروات البلاد ، فالغرب بدأت شمس نفوذه تغرب في أفريقيا ( حالة فرنسا في مستعمراتها السابقة ) بجانب السخط و النفور من التوجهات الأمريكية و البريطانية في العالم الثالث ، و ظلال الحرب في أوكرانيا و ملامح نظام عالمي جديد بدأ يتشكل بسرعة البرق ، لا يضع الغرب اوضاع السودان و ما يدور فيه في صدارة الإهتمامات العاجلة .
لا يستطيع الغرب بوضعه الراهن تقديم ما يلزم لإنجاح هذا الخيار ، لا سياسياً و لا إقتصادياً ، فالدعم و الإعانات المالية و القروض غير متاحة الآن ، فالأولوية الأوروبية تقوم علي توجيه مواردها لحل أزمة الطاقة الطاحنة و مستقبل الحرب في أوكرانيا التي ستزحف نيرانها جنوباً و غرباً ، بينما تغرق واشنطون في الرمال المتحركة لاختلال إستراتيجيتها الدولية و هي تراقب إنفلات دفة القيادة لعالم أُحادي القطب من بين أيديها . بينما تعارض هذا الخيار قوي دولية اخري تمثل الحلفاء الدوليين للسودان فهم يريدون الاستقرار والسلام الداخلي .
لا يحظي هذا الخيار بترحيب من قوي إقليمية ، و تري فيه مقدمات للإضطراب السياسي و الأمني و عدم الاستقرار ، فدول الخليج لا تتفق كلها مع طبيعة و نوع هذا الخيار ، بينما تشير أطراف دبلوماسية أن مصر لا تتحمس للتسوية الثنائية مع قحت المجلس المركزي و تراها صيغة متهالكة ضعيفة التكوين ومعزولة ستزيد السودان خبالاً و وبالاً يهدد مصالحها الحيوية و أمنها القومي .
وفي ذات الاتجاه فإن تشاد مع إضطراباتها الحالية لا تطمئن الي أي حلف ثنائي مع قوي سياسية لا تسطيع المحافظة علي سلامة و أمن السودان الذي يرتبط به الأمن القومي التشادي إرتباطاً وثيقاً ، و لديها إعتبارات واسئلة حول التسوية و مع من ؟ و لصالح من ..؟ و ما هي إنعكاساتها علي التداخل الإجتماعي والقبلي بين البلدين ، في هذا الصدد قال مسؤول تشادي رفيع لدي زيارة مبعوث فرنسي لإنجمينا في الاسابيع الماضية ( إننا نتأثر بالسودان سياسياً وإجتماعيا ، نحن لا نعرف الأيدولوجيا الحزبية و ليس لدينا احزاب يسارية ولا متطرفين ، من لا يفهم طبيعة علاقتنا التاريخية مع السودان وصلاتنا الاجتماعية نسبة لحدودنا متداخلة و أوضاعنا الهشة لا يخدم مصالحنا المشتركة ، نريد من يفهم ذلك في الخرطوم ) ..
وتنظر جوبا الي وضعها الداخل بمنظار واقعي ، يجعلها لا تطمئن إلى أي تسوية ثنائية ، بينما تحدد أثيوبيا مواقفها بناء إنعكاسات دور الخرطوم علي أوضاعها الداخلية ، فعملية التسوية السلمية الجارية في جنوب افريقيا مع جبهة التغراي و هدوء الاوضاع الحدودية والتهدئة في ملف سد النهضة و مياه النيل ، هي ركائز مقدمة علي أي علاقات تعاون او تحالف مع الأطراف السياسية السودانية وتقول بعض الاصوات المتعقلة في دوائر الحكم باديس ابابا : (( أن قوي الحرية والتغييرفي السودان خلال الثلاث سنوات الماضية لم تثبت أنها عنصر قوي لخدمة العلاقات و المصالح مشتركة رغم الصلة والعلاقة معها ،لم تؤثر علي مواقف الجيش في السودان فهي غير قادرة علي فعل شيء حتي في عهد حمدوك )) .
من واقع الحال و ما يتم رصده من تفاعلات هنا و هناك ، فإن خيار التسوية الثنائية مع قحت المجلس المركزي ، كاسد في السوق السياسية ، و لن يحقق ربحاً و لا شروي نقير ، و لن يجد من يشتريه بأبخس الأثمان ، لا الاتفاق ( التسووي ) و لا دستور ما يسمي بلجنة تسيرية المحامين الذي لا يساوي ثمن الحبر الذي كُتب به ، أما كون التسوية نتيجة ضغوط أو هي محل خلاف داخل المكون العسكري ، بجانب الخيار الثاني فهذا ما نتحدث عنه في المقال اللاحق …
الصادق الرزيقي