أكثر الأماكن التي تتقبل الإشاعة بشغف هو دون شك السجن، والاعتقال التحفظي المفتوح بلا أمل محدد يساعد على تقبل الإشاعة بوصفها مخرجاً معنوياً لحالة المعتقل المتحفظ عليه.
كان سجن كوبر في العام 90 مكتظّاً بكل الاتجاهات السياسية. كان يعج بوزراء الديمقراطية الثالثة، وبالنقابيين والصحفيين وبعض تجار العملة. كل رؤساء الأحزاب كانوا هناك، ومن العسكريين كان الفريق عبد الرحمن سعيد والعميد عبد العزيز خالد، والمقدم عبد المعروف، وذلك رجل يتمدد على إرث فكاهي ضخم. وله قصص طريفة منذ أن كان طالباً حربياً إلى بلوغه رتبة المقدم. كنا نتسامر كل ساعات الليل. ذات مرة سألني كيف كان سيهتف الناس إذا نجح انقلابي وتسلمت السلطة؟ فقلت له كانوا سيهتفون (توف توف عبد المعروف)!
لكن الانقلاب الذي أقصده ليس انقلاب عبد المعروف، وهو انقلاب السيد محمد طاهر جيلاني وزير الإسكان في الديمقراطية الثالثة، وأحد أبرز القيادات الاتحادية في شرق السودان. فقد صحونا في ذلك اليوم على صوته يعلن لنا أن انقلاباً قد وقع منذ الرابعة صباحاً، وأننا نخرج ظهر نفس اليوم، وصادف أن الإذاعة كانت تبث أناشيد وطنية. سرت هذه الإشاعة على كل أقسام السجن، الشرقيات، الغربيات وحوش الطوارئ، وترسخت في أقسام المعاملة الخاصة والكرنتينات: أ، وب، وج لأن الوزير الجيلاني كان من قاطني تلك الأقسام.
ما قوّى تلك الإشاعة وجعلها حقيقة هو تأييد المرحوم خالد الكد لها. وخالد عليه رحمة الله أصغر انقلابي في التاريخ ويعرف فنيات الانقلابات ومواقيتها، غير أن الإذاعة أضعفت احتمال الانقلاب، لأنها بعد الأناشيد، بدأت في بث برامجها العادية. ثم انضم غازي سليمان للإشاعة وبدأ يرشح أسماء بعض الضباط، ومن جهة ثانية تبرع الوزير التوم محمد التوم بحديث طويل عن برنامج هذا الانقلاب ووصفه بأنه أول انقلاب عسكري سيسلم السلطة للمدنيين ويعود للثكنات. كان كل هذا يحدث والسيد محمد طاهر جيلاني يلزم الصمت، كأنه كان مكلفاً بإبلاغ الرسالة فقط دون أن يغوص في التفاصيل.
صباح ذلك اليوم، تداولت الألسنة أسماء الكثيرين من الضباط. واعترض عبد العزيز خالد على هذا الأمر لأسباب عسكرية وأمنية بحتة. لكن السيد محمد طاهر جيلاني نهض فجأة وأخذ يحدِّق نحو الأعلى ترصد عيناه طائرة الخطوط الجوية السعودية تطير على ارتفاع قريب من السجن وأنبأنا بعد اختفاء الطائرة بأن الانقلاب قد فشل!!
تحلَّقنا كلنا حوله وسألناه بجدية وحزم كيف عرف الانقلاب في الأصل؟ وكيف ينفي وقوعه وهو لم يغادر السجن؟! كانت إجابته مدهشة للغاية، ذلك أنه لاحظ عدم هبوط طائرات على مطار الخرطوم، والطائرات تأتي عادةً بمنطقة كوبر في حالتي الاقلاع والهبوط. وذهب عقله إلى أن انقلاباً قد وقع، واحتل الانقلابيون المطار. ولكن حين رأى طائرة الخطوط السعودية تهبط تيقن بفشل الانقلاب أو عدم حدوثه في الأصل.
في نشرة التاسعة، سمعنا أن إدارة الطيران المدني، أكملت صيانة مطار الخرطوم الذي كان مغلقاً لساعات.
صحيفة الانتباهة