أشجار اللبخ… متاحف تاريخية توثق ذكريات السودانيين

تمثل ملتقى العشاق على نيل الخرطوم وتشهد صفقات تجارية ومحاكم شعبية ونزهات أسرية

تمثل ملتقى العشاق على نيل الخرطوم وتشهد صفقات تجارية ومحاكم شعبية ونزهات أسرية

يشتهر شارع النيل في العاصمة السودانية الخرطوم، الذي يربط غربها مع شرقها، بكثافة أشجار اللبخ العملاقة، ويعود تاريخها إلى ثلاثينيات القرن الماضي عندما حملها الإنجليز بجانب أشجار النيم والبان وغيرها من الأشجار التي تزدهر في المناخ الاستوائي.

تعد أشجار اللبخ من المعالم البارزة على امتداد كورنيش النيل في الخرطوم، كما تتميز بظلالها الكثيفة التي تقاوم قساوة طقس الصيف في البلاد، خصوصاً العاصمة، فضلاً عن أنها تمثل أحد أبرز شواهد التاريخ المعاصر.

أسرار العشاق

تمثل أشجار اللبخ المنتشرة على امتداد شارع النيل متاحف تاريخية توثق ذكريات العشاق العامرة بالأشواق والمحبة وأيضاً انكساراتهم التي قهرتها الظروف ولم تخل ظلالها من المواعيد الغرامية للشباب من الجنسين الذين يقضون تحتها ساعات طوال.

هذه الأشجار حملت بين أوراقها وأغصانها العديد من أسرار العشاق، كما شهدت بدايات ونهايات قصص غرامية، كذلك نحتت أحرف ورسومات في سيقانها من قبل العاشقين، فهي تحمل ذكريات قرن كامل بكل آماله وأحزانه ولا تزال واجهة مبتسمة على شفاه النيل.

أحمد حسن الطيب في العقد الخامس من العمر، أحد الذين ارتادوا فضاءات أشجار اللبخ، قال إن “ظلال تلك الأشجار كانت بمثابة ملاذ لهم في تلك الأيام من سبعينيات القرن الماضي، فقد منحتهم فرصة مقابلة حبيباتهم بعيداً من فضول المجتمع المحافظ، كما كانوا ينحتون على لحاء الأشجار تواريخ الأيام وأسماء الحبيبات والأمنيات بحياة سعيدة”.

وأضاف الطيب “هناك من أسعفتهم الظروف بتكليل تلك العلاقات بالزواج، وبعضهم تفرقت بهم الأيام والأماكن، لكن لا تزال نقوشهم وتواريخ جلساتهم ولقاءاتهم محفورة في أجساد أشجار اللبخ”.

معمرة ونادرة

تعتبر “اللبخ” من الأشجار المعمرة والنادرة، كما أنها باتت مهددة بالانقراض، فهي تنمو على حواف الوديان الكبيرة ويصل ارتفاعها في كثير من الأحيان إلى 40 متراً وعرضها يبلغ 6 أمتار.

وبحسب عبد الرحيم النور، الذي يمتلك محالاً لبيع شتول الأشجار بجوار النيل منذ العام 1960، فإن أشجار اللبخ من الأشجار القوية التي تقاوم أقسى الظروف وتعمر لسنوات طويلة، إذ يصل عمر بعضها الآن على النيل إلى أكثر من مئة عام”.

إرث تاريخي

جمعيات حماية البيئة أولت اهتماماً كبيراً بأشجار اللبخ باعتبارها إرثاً تاريخياً يجب الحفاظ عليه، ونظراً لمكانتها عند السودانيين فقد تناولها كثير من الشعراء وتغنوا بها العديد من المطربين، حيث وصفوها بالشموخ والثبات.

كما دافع قطاع عريض من المواطنين بضراوة عن تلك الأشجار، إذ رفضوا محاولات عدة لاقتلاع أعداد منها، لكن بيد أن ظروف البيئة تسببت في سقوط الكثير منها.

ويعود تاريخ أشجار اللبخ، وفق المؤرخ السوداني الزين طه، إلى بداية القرن الماضي عندما حملها السلطات البريطانية إلى السودان بعد حملة كتشنر في عام 1898، حيث تزينت الخرطوم بحزام من هذه الأشجار العملاقة، خصوصاً داخل المقار الحكومية والشوارع الرئيسة بوسط العاصمة.

محاكم شعبية

لم تقف أشجار اللبخ على الخرطوم فحسب، بل حملت إلى بقية مدن البلاد المختلفة للتخفيف عن حرارة الشمس، فكانت مدينة ود مدني حاضرة ولاية الجزيرة تشابه الخرطوم في كل شيء، خصوصاً أنها تقع على الضفة الغربية للنيل، حيث وجدت تلك الأشجار بذات التسلسل الهندسي كأنها تخاطب رصيفاتها في عاصمة البلاد عبر انسياب النيل الذي يهدر صوب الشمال.

كما باتت أشجار اللبخ في مدن السودان المختلفة أكثر ارتباطاً بالحياة الاجتماعية، لا سيما أن ظلالها الوارفة العملاقة تكاد تمثل أسواقاً قائمة بذاتها تجمع الباعة وصفار التجار وتنجز بين ظلالها كثير من المعاملات التجارية والاجتماعية.

كما تعقد المحاكم الشعبية تحت ظلالها، إذ حملت هذه المحاكم كثيراً من الدلالات الاجتماعية لمجموعات تستطيع عبر آليات قضائية شعبية بسيطة حل العديد من القضايا بواسطة الأعراف القبلية.

ألفة مع الإنسان

أشجار اللبخ لم تعرف عبر تاريخها بجودة أخشابها، وربما يعود ذلك إلى ألفة خاصة بين إنسان السودان وهذه الشجرة، فقد ارتبط بها السودانيون لدرجة العشق مما جنبها قساوة الفؤوس والقطع الجائر، ولم يعد هذا النوع من الأشجار حصراً على العشاق، إذ تحلقت تحت ظلالها بائعات الشاي والقهوة، كما يتجمع تحتها العشرات من الشيب والشباب من الجنسين وبعض الأسر التي تنشد الترفيه.

وفي الوقت ذاته شكلت هذه الأشجار وجدان الإنسان السوداني في عقود سابقة، ولا تزال ظلالها تحتضن بحنو عظيم أجيال قادمة وتمنحهم تاريخاً وحاضراً على الرغم من التقلبات السياسية إلا أنهم يتفقون بأن ظلال أشجار اللبخ مترفة تعيد ترتيبات الأعصاب بعد يوم شاق وطويل.

تسامح وعلاج

رئيس جمعية فلاحة البساتين السابق في السودان محمود ياجي أشار إلى أن أشجار اللبخ تشمل أنواعاً عدة تصل إلى 150 نوعاً، منها أشجار وشجيرات وبعض المتسلقات، وتتميز بنموها السريع في حين يصل ارتفاعها إلى 12 متراً، وتزهر في فصل الصيف، وتكون روائحها زكية ومن أهم ما يميزها مقاومتها للجفاف والعطش.

وتعرف شجرة اللبخ بأنها مثبتة للنيتروجين وذات قيمة عالية للتظليل، ويستخدم لحاؤها في الطب الشعبي لعلاج آلام المغص والبطن، كما أنه يحتوي على نسبة عالية من التانين المستخدم في صناعة الجلود.

كما تتميز هذه الشجرة بتسامحها مع الأشجار التي تنمو قربها، فيمكنها أن تنمو إلى جانب شجرة أخرى في مسافة ضيقة نظراً لنظامها الجذري العرقوبي، وبخاصة إذا زرعت تحت مسافة واطئة.

واللبخ شجرة كبيرة متساقطة الأوراق تنتشر في الباكستان وبنغلادش وجنوب الصين وتايلاند وماليزيا، وتوجد في أفريقيا وأستراليا والوطن العربي، لكن موطنها الأصلي الهند، إذ إنها ممتدة من الهملايا إلى بورما.

تنجح زراعة اللبخ بالمناطق الجنوبية من العراق والمناطق المحفوظة من البرد الشديد في الجهات الوسطى وتتكاثر بالبذور وتزرع اللبخ في العديد من الدول كنباتات زينة ومن أجل ظلها.

إندبندنت عربية

Exit mobile version