إذا لم تدفع، فأنت الثمن
لاتنكر قوى الحرية والتغيير قحت(المجلس المركزي) ارتباطها بالخارج، بل تتباهى بذلك، وتعتمد الخارج ضمن وسائلها لتنفيذ برنامجها السياسي القائم على الإطاحة بالبرهان وزمرته، ومن ثم إعادة هيكلة الجيش والشرطة والامن، وتخطط بعد ذلك لتجريد خصومها السياسيين من قدراتهم المادية، وتصميم mini او(مايكرو) ديمقراطية، ( ديمقراطية صغرى).
أحيانا تطلق قحت على هذا الخارج مسمى المجتمع الدولي، واحيانا تكتفي بكلمة الخارج هكذا دون تحديد، وتوهم نفسها قبل ان توهم الناس ان هذا الخارج هم من أصحاب الضمائر الحية والمساعي الحميدة، الذين يريدون مساعدة قحت في تصفية الانقلاب الذي – بزعمهم- بدأ في اكتوبر2021واستعادة المسار الديمقراطي الذي غاب في ذات التاريخ.
دعونا نفترض ان قحت عادت الى السلطة( ويبدو ان ذلك سيتم الأيام القادمة على يد الخارج)، فما هو الثمن الذي ستدفعه قحت الى هذا الخارج مقابل العودة مرة أخرى الى السلطة؟ هذا سؤال يحتاج ان يٌطرح، ويحتاج أيضا الى الإجابة عليه.
في اعراف وتقاليد هذا المجتمع الدولي فإنه لا شيء يمكن تقديمه بلا ثمن، اذا لم تقدم قحت الثمن مقابل هذه المساعدة فعليها ان تعلم انها هي(الثمن)، هكذا يقول الخواجات: اذا حصلت على خدمة ولم تدفع، فاعلم انك انت الثمن.
عجيب امر هذا المجتمع الدولي الذي لا يهمه ان تغيب الديمقراطية عن الصين وروسيا ( وهؤلاء من عتاة المجتمع الدولي بل أعضاء في مجلس الامن)، وتغيب عن كل المنطقة الافريقية والعربية بما فيها مصر الدولة المفتاحية في المنطقة، ثم يشعر هذا المجتمع بوخز الضمير على تعثر قيام الديمقراطية في السودان!!.
واعجب من تصورات قحت لهذا المجتمع الدولي، تصورها للديمقراطية او الدولة المدنية، ولذلك فإن قحت تعاني -ضمن ما تعاني- من ازمة مفهوم، وقد كتبت عن ذلك اكثر من مرة، وقلت ان ديمقراطية قحت ليست هي(الديمقراطية) التي تعارف عليها الناس.
والدولة المدنية حسب مفهومها مصطلح فضفاض يشمل- ولا يقتصر على- تفكيك القوات النظامية كلها، وفرض دستور على السودانيين قهرا وغصبا، وتفصيل القوانين لايذاء الخصوم،وهذه الازمة المفاهيمية تدخل قحت في زمرة النادي الديكتاتوري الشمولي المستبد، حتى ولو لبست ثيابا مدنية.
انظروا الى المفارقة في المفهوم، واحكموا بين وجهة نظر قحت، ووجهة نظر الآخرين الذين يقفون في الضفة المقابلة:
كل القوى السياسية والمجتمعية ترى ان اللعبة الديمقراطية يجب ان يمارسها وينعم بها الجميع، وبهذا فإن قحت هي جزء لا يتجزأ من اللعبة ولا يجب ولا يجوز استبعادها، في المقابل ترى قحت العكس: ترى انها الكل في الكل، وليست جزءا من كل، فهي التي يجب ان تحتكر الحكم والمعارضة معا(كما قال قائلهم بأنهم وحدهم من يحق لهم التظاهر ضد حكومتهم)، ولم تكن كلمته عفو الخاطر، بل كانت مستكنة في أعماق اعتقاده، وخرجت من بين فلتات لسانه وصياح الجماهير.
الحكومة المدنية لدى قحت تماثل حكومة كاسترو والقذافي، اللذين كانا يصفان حكومتهما بأنها شعبية تشاركية، ولكنهما احتكراها، و حاولا احتكار المعارضة الى جانبها، فأحيانا ربما يخرجان مع مجموعات منتقاة من (الثوار) الى الشارع العام ويهتفان ضد حكومتهما، كانا يفعلان ذلك عن اعتقاد(مثل اعتقاد قحت)، وهذا افضل نموذج يمكن ان تستلهمه قوى الحرية والتغيير عندما تعود الى السلطة الانتقالية.
ان الديمقراطية في ذروة تجلياتها واسمى معانيها تتيح للكافر بها والجاحد لها ان يدخل جنتها وينعم بخيراتها،اذ ليس فيها جحيم، فكيف بالمؤمن؟؟، ولذلك فإنها خاضعة لقانون النسبية ولا وجود فيها لقانون المطلق(اما معنا او ضدنا)، فالمعارضة جزء اصيل من النظام السياسي في عوالم الديمقراطية المعروفة(باستثناء ديمقراطية قحت).
ولأنها خاضعة لقانون النسبية فإن الديمقراطية لا تحرم الآخر من حقه في الا ينتمي لقحت ولا يرى رأيها، ولا يعتقد صحة مذهبها، فالنظام الديمقراطي ما صمم الا لفض احتكار(الصواب والخطأ)، بل ان المعارضة ركن واجب من اركان الديمقراطية لا تتم الديمقراطية الا به. ولا توجد حكومة ديمقراطية في العالم بدون معارضة.
الذين يقفون في الضفة الأخرى لقحت هم على نوعين: الأول لا يريد المشاركة في الحكومة ولا يرغب، ولكن يرفض ان تصمم القوانين ضده، ويريد ان تكفل له الحكومة حقه في ان يعارض، والثاني يرغب في الالتحاق بالحكومة والمساهمة في رسم ملامح المرحلة المقبلة..فأين الخطأ في ذلك؟.
مالك محمد طه