أصبح السودان منذ سقوط الرئيس عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019 وبفعل الانسدادات التي استوجبها نظام الإخوان المسلمين على مدى 30 سنة، كتاباً مفتوحاً يمكن التكهن بمآلات حراكه داخل النسق الذي شكله. فاليوم، لا يغيب عن عين المراقب أن اللجنة الأمنية لنظام البشير لا تزال تمسك بخيوط اللعبة الأمنية ومفاصلها، وهي لعبة أصبحت ظاهرة ظهوراً يمكن أن يدركه المتتبع لطبيعة الضرر الكارثي الذي ألحقه نظام الإخوان المسلمين بجهاز الدولة العام على مدى 30 سنة.
فأحداث النيل الأزرق التي راح ضحيتها المئات خلال الأسبوع الحالي في النزاع على ملكية الأرض بين قبيلة الهوسا وقبائل السلطنة الزرقاء، لم يكن اندلاعها مستغرباً في هذا التوقيت مع قرب الوصول إلى اتفاق سياسي بين قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) والمكون العسكري على إنهاء الانقلاب. كذلك، لم يكن مستغرباً قبل ذلك أحداث مدينة لقاوة في منطقة غرب كردفان ونزوح الآلاف مع بوادر اندلاع صراع مسلح مع الحركة الشعبية- شمال التي يقودها عبدالعزيز الحلو التي لم توقع على أي اتفاق للسلام بعد. وقبل ذلك كانت أحداث شرق السودان التي استمرت ضمن عمليات شد الأطراف التي اشتغل على ممارستها المكون العسكري على مدى سنتين طمعاً بالحصول على تفويض من الشعب للحكم.
هذه المؤشرات كلها تعكس بوضوح أصابع اللجنة الأمنية في الخرطوم وتفضيلها الدائم للعبث بالأمن وتحريك صراعات القبائل السودانية التي تمت تعبئتها للتسييس. ولعل المستغرب في ذلك أن هذه الأمور تأتي في وقت أعلن فيه العسكر، سواء عبر قائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان أم عبر قائد الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) عن انسحابهما من العملية السياسية. وكان ذلك في الوقت ذاته إيذاناً بفشل أجندتهما الأمنية في شرق السودان، حيث تتقاطع أجندات محلية وإقليمية ودولية. فكيف يمكن، والحال هذه، تفسير إعادة تحريك عمليات شد الأطراف مرة أخرى بين النيل الأزرق وكردفان؟ هل للأمر علاقة بنية العسكر في التشبث بالسلطة، مرة ثانية، بعد مرور أكثر من سنة أثبتت استحالة حكمهم وعجزهم حتى عن تعيين رئيس للوزراء؟ أم أن للأمر علاقة باستعراض أوراق ضغط تكتيكية بحثاً عن مخرج آمن للعسكر مع نهاية العملية الانتقالية، لا سيما أن الضغوط الدولية على العسكر تكثفت في اليومين الماضيين عبر مطالب أكثر من 11 دولة أوروبية إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية وكندا عبرت فيها تلك الدول عن استعدادها لدعم السودان اقتصادياً والتعاون مع إمكاناته الاقتصادية الكبيرة لكن بشرط أن يسلم العسكر السلطة إلى حكومة مدنية ذات صدقية. وقد قرأنا في اليومين الماضيين تصريحاً لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن يلمح فيه إلى أن الوقت قد حان لتنازل العسكر عن السلطة في السودان لحكومة مدنية.
وكانت قد رشحت بعض الأخبار في الصحف السودانية في شأن ضمانات أميركية لقادة الانقلاب في السودان بعدم الملاحقة القانونية، الأمر الذي قد يفسر أن أحداث هذا الأسبوع في منطقة لقاوة والنيل الأزرق، ربما كانت أوراق ضغط تكتيكية ضد قوى الحرية والتغيير للقبول بضمانات تقضي بعدم مساءلتهم في نهاية المرحلة الانتقالية.
ويبدو أن قوى الحرية والتغيير قد أرفقت رداً مكتوباً للعسكر، بحسب بعض التسريبات، وأن العسكر يدرسون عرض تلك القوى، لكننا غير متأكدين من طبيعة ذلك العرض والرد المحتمل عليه من طرف العسكر.
فمن الواضح اليوم تباعد موقف الشارع الثوري الذي يضغط في اتجاه خروج العسكر من العملية الثلاثية خروجاً تاماً من دون قيد أو شرط، وضمن اللاءات الثلاث: لا صلح لا شراكة لا مساومة. وكانت مليونية الثلاثاء 25 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي بمثابة استعراض قوي لسلطة الشارع الذي تقوده لجان المقاومة، إذ خرج مئات الآلاف من السودانيين في أكثر من مدينة مطالبين بإسقاط الانقلاب.
وبعيداً من المواقف الحادة، يمكن القول إن التفسير الذي يمكن قبوله لضمان سيرورة عملية الانتقال الديمقراطية للفترة المقبلة بأمان ومن دون أي انقطاع أو انقلاب عليها تندرج مؤشراته في موقفين، إما خروج العسكر من العملية السياسية، بالمعنى الذي يخرج فيه كل من البرهان من قيادة الجيش فيما يخرج حميدتي من قيادة قوات الدعم السريع، وإما وفق احتمال بقاء كل من البرهان وحميدتي على رأس القوى العسكرية لكن تحت سيادة رئيس وزراء مدني، وهذه الحالة الثانية لا يمكن تفسيرها تفسيراً مقبولاً إلا بضمانات أميركية للعسكر توفر لهم الملاذات الآمنة بعد نهاية المرحلة الانتقالية التي من المتوقع أن تستغرق عامين.
السؤال الذي يفرض نفسه هو أنه إذا ما تبين أن الأرجح هو الخيار الثاني، أي بقاء كل من قائد الجيش وقائد الدعم السريع على رأس سلطتيهما العسكرية وتحت سيادة رئيس وزراء مدني من دون أن يتدخلا في الشؤون السياسية، فكيف يمكن للحرية والتغيير الاضطلاع بمهمة إقناع القوى الثورية بهذا الخيار؟
في مثل هذه الظروف تتطلب التسويات مواقف شجاعة من القوى السياسية، فبين ما يسمى قوى “التغيير الجذري” التي تدعو إلى تكتيكات وحشود دائمة بلا أفق نظري لطريقة محددة في إنهاء الانقلاب، ودعاة التماهي مع العسكر مثل ما يسمى قوى الحرية والتغيير (التوافق الوطني)، وإرادة قطع الطريق على الثورة من طرف قوى الردة والثورة المضادة، ستجد قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) نفسها في موقف لا تحسد عليه إذا ما قبلت بخيار الضمانات الأميركية للعسكر كحل ممكن. وهذا، في تقديرنا، يحتاج إلى حوارات مكثفة بين قوى الثورة، وإلى صراحة شديدة وعصف ذهني في التهيئة للتحرك ضمن الممكن في واقع سياسي معقد ومركب ومفتوح على الهاوية. العمل السياسي التاريخي في منعطفات وطنية حرجة، كالتي يمر بها السودان اليوم يحتاج إلى قادة استثنائيين لديهم القدرة على اجتراح حلول غير شعبوية. وفي الوقت نفسه لديهم القدرة على عدم التأثر بمزاج الجماهير والحشود. ففي تقديرنا أن خيار خروج العسكر من السلطة مادياً أي باستقالة كل من البرهان وحميدتي من منصبيهما العسكريين هو خيار ممكن وقد يأتي ضمن ضغوط الشارع الثوري، لكن عدم وحدة قوى الثورة قد يجعل من مثل هذا الخيار بحاجة إلى زخم ثوري هائل من وزن محركات الكتلة التاريخية الحرجة، الأمر الذي قد يضع قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) أمام خيار القبول بتلك الضمانات الأميركية القاضية بتأمين المرحلة الانتقالية من دون أي تهديد من طرف العسكر مقابل ضمان الحصانة الأميركية لهم! وإذ يبدو الزمن في غير مصلحة الجميع، في الوقت الذي تبدو حساسية الوضع اليوم قد تؤدي إلى تفجير الاتفاق بناء على الخلاف على هذه النقطة بين الطرفين، فإن المجتمع الدولي قد يلجأ إلى الضغط أيضاً.
ربما ستنتظر قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) رد العسكر على مسودتها، لكن إذا ما تذكرنا تجربة سنتين خسرها العسكر عبر شد الأطراف بحثاً عن تفويض من الشعب للحكم، من دون جدوى، وتجربة عام كامل من الانفراد بالحكم كشف تماماً عن عجز الجيش عن الإتيان برئيس وزراء وتكوين حكومة ذات صدقية، وتدهور الأوضاع المعيشية على نحو مريع، نجد أنفسنا أمام مؤشرات عجز اعترف بها كل من البرهان وحميدتي حين أعلنا في يوليو (تموز) الماضي عن انسحابهما من العملية السياسية. وبين خروج البرهان وحميدتي من السياسة وخروجهما من الجيش بالاستقالة سيدور سجال عريض بين القوى السياسية.
إن السودان بعد سقوط البشير وانتصار الثورة التي لا تزال في طور الصيرورة أصبح مؤشراً واضحاً من حيث كونه كتاباً مفتوحاً تسهل معرفة انسداداته، فقد بات السودان بعد التدمير الذي طال جهاز الدولة العام وهياكل الخدمة المدنية ونظام التمكين الذي دمر الاقتصاد الكلي للسودانيين، أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الاتجاه نحو دولة المواطنة والديمقراطية والمدنية، وإما الاتجاه نحو الحرب الأهلية، بحسب هشام النور، لأن تلك الانسدادات التي نتجت عن تدمير جهاز الدولة السودانية تجعل من المستحيل خياراً ثالثاً عدا هذين الخيارين. لهذا، لا ترف يسمح بالتردد في الخيارات، إذ إن كل المعطيات تؤكد أنه في حال تباطؤ البحث عن حل سياسي يفضي إلى حكومة مدنية ذات صدقية، فإن متغيرات كثيرة يمكن أن تحدث، لا سيما أن المجتمع الدولي لا يمكنه الانتظار طويلاً.
محمد جميل احمد
إندبندنت عربية