من فوائد الغربة أنها تهدي للشخص حسنات وسيئات ثقافة مجتمعه الأصلي عبر الاحتكاك بالثقافات الأخرى، فكثيراً ما يسمع السوداني في الخارج مقولة أن السودانيين إذا عاشرتهم يتضح لك أنهم شعب طيب القلب ومتسامح، هذه المقولة تدل بمفهوم المخالفة أن السودانيين لا يعطون ذلك الانطباع عند معرفتهم بصورة سطحية، وربما هذا الفهم فيه كثير من الحقيقة فنحن شعب لا يجيد استخدام لغة الجسد لدعم الرسالة التي نحاول إيصالها بالكلمات، وأهم مفردات تلك اللغة الابتسامة التي تعطي الانطباع الأول وتعتبر المفتاح السحري لدخول قلوب الآخرين دون استئذان وجواز مرور لنيل قبولهم ومد جسور التواصل معهم.
عمل شقيقي الأكبر جلال بعد تخرجه لفترة وجيزة كمحاسب لدى رب عمل قبطي سوداني بشوش الوجه كثير الابتسام في وجه الزبائن، وكان لجلال صديق يتميز بعبوس الوجه يزوره في مكان العمل من وقت لأخر، وفي ذات يوم سئل رب العمل الضيف بعفوية {أنتا بتكرهني ليه يا أبني أنا عملتلك أيه}، ولم يصدق الرجل رد الضيف بأن هذه تعابير وجهه الطبيعية.
في نفس السياق سبق وسألني صديق أوربي كنت أطلعه على البوم صور خاص بي بعفوية {لماذا لا تبتسمون في الصور؟}، فرددت عليه بإجابتنا الجاهزة بأن صرة وجهنا لها علاقة بلفح أشعة الشمس الحارقة المسلطة على الوجوه لفترات طويلة.
هذان الموقفان جعلاني أفكر في الأمر بزاوية مختلفة، حيث توصلت إلى أن أشعة الشمس بريئة براءة الذئب من دم أبن يعقوب بشأن عبوس وجوه السودانيين، فالمشكلة يبدو أنها ثقافية بحتة، حيث يمكنني الزعم بأن المنظومة الثقافية السودانية لا تدعم الابتسام وذلك بالرغم من أنه اقل كلفة لعضلات الوجه مقارنة بالتجهم، فالعلماء يؤكدون أن الابتسامة تحتاج لتحريك 17 عضلة فقط في الوجه بينما يحرك العبوس 43 عضلة، فلماذا التبذير وهو من صفات الشياطين!!.
الغريب أن تقطيب الجبين يرتبط عندنا بالجدية والهيبة والرزانة بينما يعتبر الابتسام دليل هزل يٌنقص من قدر الشخص وهيبته، فشاعرنا عندما يمدح شعبه يصفه في الأغنية التي تغنى بها الموسيقار محمد الأمين بقوله {يا صارم القسمات يا حي الشعور}، كما يقول شاعرنا حميدة أبو عشر في الرائعة التي تغنى بهل الفنان الراحل عبدالحميد يوسف {غضبك جميل زي بسمتك}، كما ترتبط الصرامة عندنا بالرجولة لدرجة أن الذي يتبسم يقال له {بتتكشم مالك ذي النسوان} مما يعني أننا نرى أن التبسم صفة أنثوية، ويؤكد هذا الفهم وجود أسماء سودانية أنثوية مثل بسمة وبسمات وابتسام، بينما نجد في المقابل أسم عباس للذكور ولا نجد اسم بسام وباسم بل نستخدم الأخير لتسمية رأس الخروف المحمر.
من الملاحظ أننا نخلط بين الابتسام المحمود والضحك المذموم فتجدنا عندما نجد شخص كثير التبسم نزجره بمثلنا القائل {الضحك بلا سبب قلة أدب}، ويصل الأمر لدرجة أننا نستغفر الله عندما نضحك من قلوبنا وكأن الضحك ذنب. وربما ترجع هذه الثقافة المتجذرة إلى تديننا الشعبي الصوفي الزاهد الذي يخاف أن يقع في محظور النهي النبوي الذي جاء في نص الحديث الصحيح {إياك وكثرة الضحك فإنه يُميت القلب ويُذهب نور الوجه}. فالفهم الصحيح للحديث الشريف حسب فهمي المتواضع يقتضي أن النبي لم ينه عن الضحك مطلقاً من حيث المبدأ إنما نهى عن كثرته، وما يؤكد هذا الفهم أن بعض الصحابة أكدوا في عدة أحاديث أنه صلى الله عليه وسلم (ضحك حتى بدت نواجذه)، والنواجذ جمع ناجزة وهي الأضراس التي لا تظهر إلا إذا كان الضحك فيه شيءٌ من السعة. وقد اثبت العلم أن للضحك فوائد صحية عديدة، حيث يعطي شعور بالراحة والاسترخاء ويقلل من الضغوط النفسية والعصبية ويقوم بدور وقائي عبر تقوية جهاز مناعة الجسم، وقد وصل الأمر لدرجة قيام بعض الدول بفتح عيادات للعلاج عبر الضحك. ويكفي في هذا المقام أن الله عز جل وصف نفسه في سورة النجم بقوله {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى}.
أعتبر الإسلام الابتسامة التي هي درجة أقل من الضحك عبادة في حد ذاتها، فالرسول الكريم يقول {تبسمك في وجه أخيك صدقة} وهو القائل {البر شيء هين وجه طلق وكلام لين}، وقد جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه أنه قال (ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقد فهم هذه العبادة مصطفى صادق الرافعي المعروف بلقب معجزة الأدب العربي خير فهم حين قال في رسائله {وهل أبدع الله الفم الجميل بهندسته وتقسيمه إلا ليبدع هو في ابتساماته التي هي فن الروح}. وقال فطن أخر لنفي المعنى بقوله {عندما يدخل شخص مبتسم إلى الغرفة أشعر وكأنه قد أضيئت في المكان شمعة}.
يحُكي أن الفيلسوف الأيرلندي الساخر جورج برنارد شو دُعي إلى حفل خيري فاختار سيدة عابسة دميمة لمراقصتها، فسألته هامسة في أذنه وهي مزهوة ومعجبة بنفسها لماذا اخترتني لمراقصتك من دون الحضور؟، فرد عليها مبتسماً هل نسيتي أنها حفلة خيرية!!.
كمال الدين بلال
kamalbilal@gmail.com