أوكرانيا ليست طرفا في المعركة، ولكنها أرض لمعركة بين طرفين، هذه النظرية تترسخ يوما بعد الاخر، لينجلي المشهد عن طرف روسي له حلفاؤه، وطرف غربي تقوده أمريكا والاتحاد الأوربي.
أوكرانيا كانت مادة الصراع، الروس يريدونها دائما موالية لهم، والغرب يريدها هراوة غليظة يمكن التلويح او الضرب بها على رأس موسكو..الوسيلة التي لجأ لها كل طرف في البداية هي السعي لتنصيب حكومة موالية في كييف.
مهما تكن نهاية الحرب التي تدور الآن فلن تعود أوكرانيا كما كانت صفوا للاوكرانيين، ولكنها ستحكم بإرادة الطرف المنتصر، اما بتنصيب حكومة مطلقة الولاء له على احسن الفروض، او بوجود عسكري كبير على أراضيها لحماية الانتصار، ولن تستطيع كييف ان تبرم امرا دون الرجوع الى الطرف المنتصر. بمعنى آخر ان لم تختف جغرافيتها فستختفي سيادتها.
سوريا سبقت أوكرانيا، وما تبقى من (سوريا الدولة) خاضعة حاليا للحماية بواسطة روسيا وايران، ولكن دمشق خرجت من المعادلة كدولة متماسكة لها سيادة على أراضيها.
العراق خرج من حسابات الدولة أيضا، وكذلك اليمن، اختلت فيهما المعادلة التي تقول ان الدولة عبارة عن ارض وشعب وحكومة تمارس السيادة ، الأرض نقصت من الأطراف، وليست ثمة حكومة مجمع عليها، او بالأحرى ليس هناك حكومة مركزية، والسبب هو صعوبة الوصول اليها.
تشكيل حكومة في اليمن مستحيل، وتكوين حكومة عراقية ليس امرا سهلا، وانما يحتاج الأمر الى النظر شرقا باتجاه طهران، وشمالا ثم غربا باتجاه امريكا.
ليبيا نموذج جيد لاختفاء الدول، هي مثل أوكرانيا، ارض معركة، فيها حكومتان، كل واحدة فيها تستند على اطراف دولية وإقليمية، حكومة في الشرق لها حلفاؤها ولهم وجود عسكري على الأرض، وحكومة في الغرب تتمتع بحماية عسكرية من الخارج.
الدروس التي خلفتها هذه النماذج، هو ان المدخل للسيطرة هو تغيير القيادة، وليس هناك ما يمنع التغيير حتى ولو كانت الحكومة ديمقراطية ومنتخبة وشرعية، الذي يمنع هو القوة والتماسك الداخلي. فقد اوشك اردوغان ان يتم تغييره رغم انه منتخب، ولكن سقط بالفعل المنتخبان: مرسي، وعمران خان(بأدوات مختلفة).
ويستفاد من دروس هؤلاء الثلاثة ان الديمقراطية وحدها لا تحمي، إذا ما اتخذ كبار اللاعبين قرار الاطاحة، كما يستفاد منها ان الأنظمة غير الديمقراطية يمكن ان تجد الحماية الدولية إذا خضعت.
ربما يفضل بعض السودانيين النظر الى انفسهم على انهم شيئ مختلف عند النظر الى التغيرات التي تحدث من حولهم، قد يكون ذلك عن قلة ادراك، وربما لثقة مفرطة في النفس، وكلا المبررين لا يمثلان عاصما كافيا ان لم يحدث التماسك الداخلي الذي يمنع من نقصان الأرض او السيادة.
يقترب السودان حاليا بشدة من فقدان سيادته، هذا اذا سلمنا جدلا أن جغرافيته على مايرام، ويلامس الوضع ان يكون السودان مجرد منطقة نفوذ إقليمي ودولي لا اكثر ولا اقل، تحت ستار(نعم لحرية السودانيين، ولا للسودان الحر).
حتى لا يطمئن دعاة الدولة المدنية والديمقراطية، الذين يبجلون المجتمع الدولي(المتصدع)، ويتعلقون باستاره لتحقيق المدنية، عليهم ان يرفعوا طرفهم قليلا، ولكن ليس الى ابعد من لبنان، فهي مدنية كاملة الدسم، ولكن من المستحيل ان يتم تشكيل حكومة فيها دون موافقة ثلاث عواصم على الأقل، وقد يمر على لبنان مدد عديدة دون تشكيل حكومة.
بعيدا عن التعصب وبنظرة موضوعية مجردة، فمنذ ابريل2019 لم يشهد السودان حكومة بهياكل مكتملة، كانت حكومة حمدوك الاولى والثانية بلا مجلس تشريعي(الضلع الثالث الذي تتكون منه الحكومات)، وبلا محكمة دستورية، وبلا سلطة تمكنها من تعيين الولاة، مع نفوذ خارجي كبير على القرار السيادي (تحرير الاسعار، تعديل القوانين، التطبيع، دفع تعويضات).
ثم جاءت قرارات البرهان في أكتوبر ونجحت في شيء واحد وهو انها جعلت قحت على قدم المساواة مع القوى السياسية، ولكنها فتحت المشهد على حجم العجز في التوافق على حكومة، وكثافة الوجود الأجنبي ونشاطه في هندسة الوضع الداخلي.
الخارج هو الذي يتولى رسم ملامح الحكومة في السودان، مم تتكون؟ من يشارك؟ من لا يشارك؟ كيف سيكتب الدستور؟ هل ستقام الانتخابات؟ ومتى؟..كل هذه الأسئلة الكبرى يتحكم الخارج في اكثر من خمسين بالمئة من اجاباتها.
وقطعا فان من يزرع مدخلات التسوية، سيحصد مخرجاتها.
هل يختلف حال السودان حاليا عن نماذج الدول المختفية؟؟ مع الاخذ في الاعتبار ان الاختفاء لا يعني بالضرورة ذوبانه في البحر، ولكن خروجه من خانة الفاعل الى المفعول به.
مالك محمد طه