مرة أخرى يستدعي نائب رئيس مجلس الانتقالي، قائد قوات الدعم السريع، الفريق أول محمد حمدان حميدتي، سيرة الفشل، ويضبطها هذه المرة بالحقبة الزمنية ما بعد قرارات قائد الجيش بإصلاح مسار الفترة الانتقالية التي يصفها الرجل الثاني في الدولة بالفاشلة في إنجاز مشروع التغيير، حميدتي يعود للتأكيد على التزامه بدعم مشروع سودان ما بعد 11 أبريل، حيث تشير ذاكرة الأحداث لدعم قائد الدعم السريع لحراك الشارع الذي انتهى بإسقاط حكومة البشير، يومها رفع الثوار في ميدان الاعتصام لافتة كتب عليها “حميدتي الضكران الخوَّف الكيزان”، قبل أن ترتد ذات الأصوات ضده عقب فض اعتصام القيادة العامة التي تتهم قوات الدعم السريع بالتورط فيه.
سؤال أول
أن يعلن نائب رئيس مجلس السيادة وبعد (11) شهراً من التغيير لم تشكل حكومة، ولم يحدث تقدم مما يعني الفشل في إنجاز أهداف تغيير المسار، وفي منطقة ود “السفوري” بولاية النيل الأبيض، وفي خطاب جماهيري اتهم الفريق أول محمد حمدان دقلو، جهات – لم يسمِّها- بالاستئثار بالسلطة والمال، ومنع أي شخص يحاول التقرب منهما، ودعاهم إلى قبول الآخرين وإشراكهم في إدارة البلاد وأضاف: (البلد دي ماسكنها ناس معينين مسيطرين على السلطة والمال)، وتابع: (نقول لهؤلاء والله لازم ترضوا بالآخرين واللقمة الكبيرة بتفرِّق الضرا)، وأكد دقلو أنه يريد اتفاقاً يرضي الجميع ويوحد السودانيين، وقال: “ما تنغشوا من أصحاب الأجندة.. ما تنغشوا تاني، خلونا نصل لاتفاق يخرج بلادنا إلى بر الأمان ويوحدنا بالاستفادة من تجارب الآخرين، لا نريد للسودان أن يتفرتق“، مشدداً على أنه لا بديل للسلام إلا السلام، ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يحدد فيها حميدتي موقفه مما يجري، حيث سبق أن انتقد نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، محمد حمدان دقلو، الانقلاب العسكري الذي نفذه قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، العام الماضي، معتبراً أنه فشل في إحداث التغيير، وذلك من خلال قناة (البي بي سي)، بينما يظل السؤال الأكثر إلحاحاً لماذا الآن؟
ما تبقى من 11 أبريل
لكن قبل توضيح مبررات الخطاب الجديد لنائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي فإن ثمة محدداً رئيسياً هو سودان ما بعد 11 أبريل الميقات المعلوم لسقوط نظام الرئيس المخلوع وما الذي تبقى فيه؟
يوم الاثنين كشفت مصادر متطابقة لـ”الترا سودان” عن مكان إقامة الرئيس المخلوع عمر البشير وبعض رموز النظام البائد منذ عام كامل. وقالت مصادر طبية لـ”للموقع” إن المخلوع عمر البشير ظل منذ عام خارج أسوار السجن، ويقيم في غرفة سكنية (VIP) داخل مستشفى علياء التخصصي، مخصصة لإقامته بمعزل عن الغرف الخاصة بالمرضى. وأشارت المصادر إلى أن البشير ظل يقيم منذ مدة طويلة بلغت عاماً كاملاً بداخل المستشفى مع توافر حراسة خاصة به، إلى جانب توفير كل المطلوبات وترتيب زيارات من أسرته.
وقطعت المصادر بوجود آخرين داخل الغرف المهيأة للسكن بمستشفى علياء التخصصي بينهم وزير الدفاع الأسبق إبان حكومة النظام البائد عبد الرحيم محمد حسين. وجود البشير خارج الحبس مع قرارات إعادة منسوبي نظامه للمؤسسات المختلفة، وإعادة أموالهم التي تمت مصادرتها يؤكد على فرضية أن الردة ممكنة مثلها وعودة منسوبي النظام المخلوع.
مع التسوية
تزامن اعتراف حميدتي بفشل سياسات ما بعد إصلاح المسار مع ارتفاع النبرات حول اقتراب التسوية بين المكون العسكري وبين قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي، وذلك على هدي مشروع الدستور الذي تقدمت به اللجنة التمهيدية لنقابة المحامين، وسبق لحميدتي أن أعلن في وقت سابق ترحيبه بالمبادرة وهو أمر جاء على عكس موقف الرجل من مبادرة الشيخ الجد، حيث طرح سؤالاً حول من الذين يقفون خلفها وطبيعة اللجان العاملة فيها، وهي مبادرة سبق وأن اتهم البعض المؤتمر الوطني المعزول بالوقوف من خلفها.
ويفسر كثيرون موقف قائد الدعم السريع الأخير بأنه يأتي اتساقاً مع الموقف الدولي العام في رؤيته للأوضاع في السودان في المستقبل المنظور، ويفسر الكاتب الصحفي، محمد راجي، خطوة حميدتي الأخيرة بأنها نتاج لارتفاع معدل الذكاء الفطري وقدرة فائقة على قراءة المجريات، والتنبؤ بالتحولات، والتأقلم معها، وإعادة ترتيب أوراقه بما يحقق مصالحه، وهو الأمر الذي يؤكد على أن خيار التسوية هو الخيار الأمثل ومع القوى التي كانت جزءاً من السلطة المنقلب عليها، وفي سياق التأثير نفسه لقوى الحرية والتغيير المجلس المركزي، فقد اعترف مبارك أردول بأن هذه القوى هي الطفل المدلل للمجتمع الدولي، كما أن خيارات التسوية وإنتاج الحلول تمر عبر طريقهم حسب رؤية رئيس بعثة “يونتامس”.
ومعه آخرون
لا يبدو مسار حميدتي الجديد سيتم دون أخذ اعتبار قوى أخرى يمكن أن تشارك فيه من حلفاء الرجل والإشارة هنا تمضي بشكل رئيسي نحو حركات الكفاح المسلح التي وقعت على اتفاقية جوبا للسلام، وفي السياق فقد أعلن رئيس حركة جيش تحرير السودان، حاكم إقليم دارفور، مني أركو مناوي، ترحيبه برؤية المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير لحل الأزمة وإنهاء الانقلاب. ووصف مناوي على غير العادة خطوة المجلس المركزي بالعقلانية التي يمكن البناء عليها وتستحق الاحترام، وأشار حاكم إقليم دارفور، إلى تحفظهم “تجاه اللغة في توزيع الحصص والحقائب والحقوق”، واصفاً الرؤية بأنها “جهد من الجهود السودانية المطروحة في الساحة”. وأضاف في تغريدته: “نحتاج لتوفيق المواقف بأعجل ما يُمكن لتكوين الحكومة”.
ويعيش السودان منذ مغادرة رئيس مجلس الوزراء عبد الله حمدوك منصبه بالاستقالة حالة من الفراغ الدستوري، وتمثل عملية تشكيل حكومة عقبة أمام حكومة الأمر الواقع التي نتجت عن انقلاب 25 أكتوبر، كما أن النظرة لموقف مناوي الجديد يشير في المقابل إلى حالة من التحولات في المشهد السياسي تحولات ترتبط بشكل كبير بإعادة ترسيم المشهد السوداني بواسطة القوى الدولية والإقليمية وهي عملية لا يستبعد مراقبون أن تكون تمت من خلال ممارسة ضغوط على الفاعلين في المشهد.
معركة مؤجلة
لا يمكن فصل موقف حميدتي الأخير مما يجري في الساحة السودانية بشكل عام، ويربطه مراقبون بشكل كبير بطبيعة العلاقة بين قائد الدعم السريع وبين فلول النظام البائد الذين يرون في حميدتي بمثابة الرجل الذي لعب دوراً فاعلاً ومحورياً في عملية الإطاحة بنظامهم، وهو أمر يصبح ضد النسيان، ويقرأ البعض موقف حميدتي الداعم للحراك المفضي للتسوية بأنه ينطلق كذلك من إعلان قوى النظام البائد رفضها له، لجهة أنه قد يقطع عليها طرق العودة مرة أخرى للمشهد السياسي، خصوصاً أن عودة هذه القوى ستفتح أمامها الطريق واسعاً للانتقام من صديق الأمس غريم اليوم، وبالتالي فإن هذا المسار من شأنه أن يفتح للرجل مساحة أخرى للمناورة واستعادة الزخم الذي قوبل به في أبريل، وإن كان الناشط السياسي منتصر الزين الذي سبق أن أعلن دعمه لرؤية قائد الدعم السريع للتغيير يستبعد أن يستعيد الرجل ما حدث؛ لجهة أنه ساهم وبشكل يحسد عليه في إضاعة الفرصة التي جاءته على طبق من ذهب، وهو أمر لا يمكن تكراره في الوقت الراهن.
الحفاظ على المزايا
ولأن السياسة هي لعبة الحفاظ على المكاسب وتعزيزها فإن الخطوة الأخيرة لقائد الدعم السريع لا يمكن قراءاتها بعيداً عن موقعه الآن، وعن رؤية المخاطر التي يمكنها أن تواجهه في المستقبل، وهي معادلة ترتبط وبشكل كبير بموقع قوات الدعم السريع بين الاحتفاظ باستقلاليتها كقوة عسكرية لا يستهان بها، وبين تنفيذ مطالب دمجها في القوات المسلحة وفقاً لمعادلة جيش قومي موحد، وسبق للمستشار السابق في مكتب رئيس الوزراء، أمجد فريد، أن اتهم قيادي في قوة التغيير وفي وفدها المفاوض بمقايضة دعم حميدتي لدستور المحامين بالالتزام من مركزي التغيير بمنح الدعم السريع مزيداً من الاستقلالية.
وهي الاستقلالية التي يربطها الكثيرون بتطورات الأحداث مستقبلاً، ولا يستبعد البعض أن يمضي الفريق دقلو في اتجاه تعزيز وجوده السياسي عبر صناديق الاقتراع من خلال ترشحه لمنصب رئيس البلاد ،خصوصاً في ظل إعلان القائد العام للقوات المسلحة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، عن انسحاب الجيش من العملية السياسية في انتظار الاتفاق لتقديم حكومة كفاءات تعبر بالفترة الانتقالية حتى تفضي إلى انتخابات يقول فيها الشعب كلمته، ويولي من يرتضيه.,
خلاصة الأمر يفسر البعض موقف حميدتي الأخير بأنه تعزيز لفكرة التحول في اتجاه دعم خيارات الثورة في إعادة بناء سودان جديد بغض النظر عن دواعي اتخاذه للموقف، وأن أكثر من سيدفع فاتورته هم “الفلول”.