السودان… وقائع اتفاق معلن!

إذا كانت حظوظ الاتفاق المرتقب في السودان بدت واضحة بإجماع من المراقبين، على أنها تأتي اليوم في ظروف أقل زخماً وتأثيراً وثورية وتماسكاً، من غداة اتفاق 17 أغسطس (آب) 2019 بين المدنيين والعسكر، فإن هذا التسليم يدل على خلفية الانقسام بين أطراف القوى الثورية. ومتى أدركنا أن هناك انقساماً عمودياً بين قوى الثورة المختلفة، وتأملنا في حيثياته ثم أدركنا الحقيقة المرة القاضية بأنه انقسام لا تقبله غاية التفكير المنطقي في ضرورة الثورة وأهدافها، ولا يسلم به عقل نقدي يختبر فكرة التناقضات الرئيسة والثانوية بين تلك القوى، سنعلم ضمن ذلك أن بقاء هذا الانقسام على حاله، فيما الوقائع التي سيفرضها المجتمع الدولي على قوى الثورة تشير إلى أن ذلك المجتمع الدولي ومعه المجتمع الإقليمي لا يمكنهما انتظار أحد، فسيعني ذلك أيضاً لكثيرين الندم على تفويت هذه الأيام التي هي على وشك الضياع من عمر الفرص التي يمكنها أن تحسن شروط نجاح الثورة.

الثورة كتاب مفتوح، وقراءة تفاعلاتها ورصد حراك قواها السياسية في ظل عصر المعلوماتية والاتصال، ستعني أن أي قراءة بصيرة وناقدة تنطلق من تحليل رصين في سبر امتناع العاجزين عن الكمال من قوى الثورة عن أن يصبحوا كاملين حقاً قبل فوات الأوان. ويحيل ذلك إلى نتائج خطيرة تقع أسبابها في أصل الشك بحقيقة الاجتماع السياسي للسودانيين، ذلك أنه لن نجد ما سيكشف لنا عن حالة عيانية بامتياز تميل بنا إلى سؤال يحوم حول أصل الشك في الاجتماع السياسي للسودانيين أكثر من هذه الحال التي تكتنف انقسام القوى الثورية اليوم.

الباحث في التاريخ السياسي والاجتماعي للسودانيين وفي عاداتهم وتقاليدهم ربما يقع على اكتشاف سر هذه التناقضات كدلالة على طبيعة الحال السياسية السودانية السائلة في اتجاه عدمي تحسد عليه.

هل حقاً كان ثمة إحساس مبهم لدى أحزابنا السودانية التي أصبحت اليوم على هذه الشاكلة من العطب، إنها بالفعل أحزاب لديها إحساس من يمارس مركزية الفعل السياسي الطوباوي من الخرطوم متوهمة له نسقاً ديمقراطياً؟ وفي الوقت الذي بدت فيه الساحة السياسية بعد الثورة عنواناً لخرطوم تعج بالجيوش التي كانت متمردة، وبقوات الدعم السريع وبالميليشيات المتناسلة من الحركات المسلحة، هل يمكن القول إن هذه الظواهر المزعجة التي تعكس طريقة واحدة، في النتيجة، وتجمع بين تلك المشاهد على نحو بانورامي هو أمر يعكس بصمات واضحة لطريقة مطردة لا نعرف معها فرقاً بين ما قبل الثورة وما بعدها؟

فاليوم، فيما نحن ندرك خطورة الثورة المضادة والناشطين فيها نتعجب لهذا العجز الإرادي لقوى الثورة أمام مقتضيات قدر تاريخي لتسجيل موقف لا يقبل التأجيل والخصم من عمر هذه الثورة العظيمة، ليعصم البلاد باجتماع قوى الثورة في جبهة واحدة ذات زخم جديد لصناعة فرق يمضي بها نحو خلاص وهي في أشد حالاتها ظلمة وضياعاً. فإذا كفت تلك الأحزاب والحركات عن التفكير في بديهية الالتفاف حول ضرورة الوحدة لإسقاط الانقلاب أو لموقف موحد لتوقيع اتفاق سياسي من أجل إخراج الوطن من مأزقه، فإن تفسيرنا لهذا العجز لا يكون محله في أي زاوية معتبرة من زوايا التحليل، ولا يندرج بتاتاً إلا في نعت هزلي لتلك التصرفات الصبيانية للأحزاب والحركات السودانية حيال ما تعانيه اليوم من مآزق العجز الإرادي.

ففي هذه “الدستوبيا” السودانية التي خلفت عطباً في أجهزة الدولة والحكم والسياسة سيكون وضع الأحزاب وعجزها الإرادي موازيين لأعطاب أخرى خلفها نظام الإخوان المسلمين في هيكلية الجيش والخدمة المدنية والبنى التحتية وغير ذلك من أبواب الخراب. لقد كان امتحان الثورة السودانية بالنسبة إلى الشعب السودان هبة نال استحقاقها البطولي، لكنه ترك زخمها السياسي لقوى حزبية بدت في عجزها الإرادي ضحية هي الأخرى بحيث نخشى القول، إن النسق الذي ستشهده ممكنات التسوية لن يكون مفاجئاً لا في إبرامه، ولا في التقلبات التي قد تعيد إنتاج كارثة حدثت لمرتين من قبل، ويمكن أن تحدث مرة ثالثة للأسباب ذاتها، ما دامت معايير القوة العمياء هي التي تتحكم في ضمير من يملك سلطة القوة.

يمضي الجيش نحو الاتفاق ويوافق على مسودة مشروع الدستور الانتقالي للجنة التسييرية لنقابة المحامين، ويقدم ضمانات مطمئنة للرباعية بجدية انسحابه من المشهد السياسي، فيما تسرب الرباعية أخباراً عن نية الجيش الانسحاب وترك السلطة للمدنيين.

اليوم، يدرك الجيش السوداني التجربة المريرة لتاريخ 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي التي أصبحت فيها السلطة على يده “جنازة بحر” كما يقول المثل السوداني، تشبيهاً للشيء الذي بيدك ولا يرغب فيه أحد. أي سلطته المعطوبة بتهديدات قطيعة خارجية من مجتمع دولي لا يرحم. لذلك، يبحث الجيش عن السلطة للمرة الثالثة التي قد يغدر في نهايتها بالشعب السوداني ثم يطلب المسامحة. فإذا صدقنا مثلاً أن الجيش صادق، فنظن أن أولى علامات ذلك الصدق هي ألا يكون على رأس المكون العسكري الشخصان ذاتهما، عبدالفتاح البرهان وحميدتي، اللذان كانا على رأس الإطاحتين الأولى والثانية بحكومة الثورة وبأمنيات الشعب في حياة آمنة وديمقراطية، لأن وجود هذين الشخصين على رأس المؤسستين العسكريتين الأكبر حتى لو كانتا تحت إدارة رئيس مدني سيكون بمثابة لعب بالنار.

التسوية الآن موجودة على الطاولة، والجيش قبل بكثير من شروط قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي، لكن يبدو أن موقف الحرية والتغيير حتى الآن واضح في مصارحة الشعب بإعلام موقفها في المؤتمر الصحافي الذي انعقد، الإثنين 17 أكتوبر، لكن الحرية والتغيير تدرك أن التسوية وهي على هذه الحال لا تخلو من مخاطر على المرحلة الانتقالية المقبلة لأنها تدرك أن زخم الاتفاق، إذا ما حصل- لن يكون كزخم اتفاق الإعلان السياسي والدستوري في 17 أغسطس 2019 حين كان الشعب السوداني يقف وراء التحالف العريض لقوى الحرية والتغيير، بالتالي فإن هذا الموقف اليوم هو الذي أدرك به المجتمع الدولي الفرق بين 17 أغسطس 2019 وخلفية الانقسامات في قوى الثورة السودانية اليوم، وهي ملاحظة سيدونها المجتمع الدولي كأجندة وستعني ترجمة لرسائل كثيرة لذلك المجتمع، ما سيضعنا أمام اتفاق إذا ما شهد انسحاب الجيش للمرة الثالثة فلربما تتبدل أحوال كثيرة تستجد على المجتمع الدولي!

سر الموقف السياسي الصحيح، بطبيعة الحال، يكمن في تجديد زخم الثورة تحت مركز عمل واحد وتكوين جسم واحد يتبنى الطرح الكامل والضغط القوي على العسكر، لكن إذا ما كانت بعض قوى الثورة تلهيه الميول والأهواء عن واجب الوقت بحثاً عن بطولة صغيرة مزيفة على منصة “فيسبوك”، فإن واقع مصير العقل الجمعي للسياسة السودانية يكشف لنا بمرارة ما ذكرناه من قبل من حالة “نقص القادرين على التمام”.

وإذا ما ظلت هذه المواقف المكشوفة بين قوى الثورة مانعة تحقيق نصاب موكب ملاييني يجمعهم (ليس على صعيد تظاهرة واحدة فحسب، بل على مركز واحد وهيئة قيادية واحدة للضغط على العسكر وإخراجهم من السلطة من دون قيد أو شرط) بهذه الطريقة من إرادة الغفلة، فإن أقصر طريقة لفهم هذا الامتناع هي التفكير من خارج الصندوق، أي من حيث الافتراض والظن الراجح في الشك بأبجديات الوعي السياسي التي يمكن أن تعيد تعريف قوى الثورة التي على تلك الشاكلة بأنها شعب وليس قبيلة، لأن الفرق بين تجمع القبائل وتجمع الشعوب هو أن الأولى لا تعي نفسها إلا بكونها حشداً، بينما للشعب وحده هو الذي يدرك كل فرد فيه على نحو مستقل، ماذا يعني له الموقف الوطني المسؤول بوصفه تظاهرة لإسقاط الانقلابيين.

ونخشى أن يأتي موكب الزخم العظيم في ذكرى ثورة 21 أكتوبر، ثم بعدها ذكرى الانقلاب المشؤوم في 25 أكتوبر، لنجد أنفسنا أمام حالتين نحن أقرب فيهما إلى كوننا حشوداً من أن نصير شعباً، وكم صدق محمود درويش حين قال “سنصير شعباً حين ننسى ما تقول لنا القبيلة”، فأن تكون شعباً يعني أن تنسى ما تقوله لك قبيلتك الحزبية في المواقف العظيمة التي يستحقها الوطن.

محمد جميل احمد
إندبندنت عربية

Exit mobile version