تمر في هذا الشهر الذكرى الثانية لتوقيع اتفاق سلام جوبا في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 بين حكومة السودان الانتقالية وبعض حركات دارفور المسلحة، وتمر تلك الذكرى بينما الاتفاق في مهب ريح إلغائه من جهة أو تعديله بصورة أو أخرى حتى بين الحلف الدارفوري الذي وقع عليه، وكان الخلاف ضرب الاتفاق وهو لا يزال في طور التفاوض حوله، إذ عاد القيادي في الحرية والتغيير إبراهيم الشيخ من مجلس التفاوض حوله في 18 ديسمبر (كانون الأول) 2019 وصرح بأن سبب عودته قناعته “باستحالة تحقيق السلام بالشكل الراهن للتفاوض وبعد عجزه عن معالجة الاختلالات المرافقة للعملية التفاوضية” ولم يشأ مع ذلك أن يجعل من اعتراضاته على سير المفاوضات موضوعاً شاغلاً، فقال إن رفع يده عن التفاوض موقف شخصي لأنه لا يستطيع “تحمل مسؤولية أخطاء الآخرين” ولكنه غير ملزم لغيره، وربما ما منع إبراهيم من المثابرة في نقد اختلالات الاتفاق وتأليب حكومته الانتقالية عليه هو حاجتها، في خضم متاعبها التي بلا حصر، إلى “خبر طيب عن السلام بأي ثمن” في قول الصحافي الأميركي جان- باتيست غالوبن.
جاءت المعارضة المستميتة للاتفاق من إقليم شرق السودان حتى نجح أخيراً في تعطيل بعض بنوده كما سنرى في ميثاق سياسي أخير لقوى الحرية والتغيير (التوافق الوطني) التي تضم حركات دارفور الموقعة على الاتفاق والمعروفة بـ”الجبهة الثورية”، وقاوم الشرق الاتفاق من جهتين، فوقفت ضده نظارات البجا والعموديات المستقلة بقيادة الناظر محمد الأمين ترك لاستبعادهم ما عرف بـ”مسار الشرق”، وهو اتفاق فرعي ضمن اتفاق سلام جوبا تضمن حلولاً لقضايا الشرق أخذ فيها المفاوضون بآراء جماعة من الشرق تصادف أن كانت عضواً بالجبهة الثورية، وساء مجلس النظارات لا عزلتهم عن الاتفاق فحسب، بل الأذى منه أيضاً، إذ إن الاتفاق نص على إلحاقهم به، وهم طرف غالب في الشرق، عن طريق مؤتمر يعقد لتنويرهم حول بنوده والتماس رأيهم فيها، حشف وسوء كيل.
من الجهة الأخرى جاء الاتفاق لإقليم دارفور بمكسب أثار حسد كل إقليم آخر، ولنذكر مثلاً ما نص عليه الاتفاق من تمتع طلاب دارفور بإعفاء للرسوم الدراسية لمدة 10 سنوات تبدأ من تاريخ توقيع الاتفاق علاوة على نسبة 15 في المئة من القبول في الكليات العلمية والطبية والهندسية في كل جامعات السودان، وهذا كسب من شأنه استثارة “الحسد السياسي” في أقاليم أخرى ووجدنا أفضل تعبير عنه في كلمة لآخر رئيس وزراء لدولة الإنقاذ محمد الطاهر إيلا في 2019 أمام جماهير الشرق التي استقبلته في أول هذا الشهر بعد عودته إلى السودان من منفاه الاختياري في مصر، فثبتهم على مطالبهم بحقهم في السلطة والثروة على قدم المساواة مع إخوتهم في الوطن، وأضاف أنه إذا لم تستجب مطالب الشرق “سنضطر إلى الرفض وعندها ربما نحتاج إلى وسائل أخرى” لأن الموت من أجل أهلهم وأرضهم وحقهم شرف، وربما لمح هنا إلى ما ناله إقليم دارفور من هذه القسمة في اتفاق سلام جوبا بعد حرب منذ 2004.
يقف في صف إلغاء الاتفاق جملة وتفصيلاً كل من لجان المقاومة والحزب الشيوعي، فجاء في “ميثاق سلطة الشعب” الذي وقعت عليه طائفة من لجان المقاومة منذ أيام إلغاء الوثيقة الدستورية (التي تعاقدت عليها الحرية والتغيير والمجلس العسكري في أغسطس 2019) بما فيها اتفاق جوبا. أما الحزب الشيوعي، فأقوى حججه على الاتفاق أنه مجرد تواطؤ بين الحركات المسلحة والمجلس العسكري الذي سطا “على ملف السلام واستخدمه رافعة مساعدة في تنفيذ مخططه في إجهاض الثورة (ثورة ديسمبر)”، وعلى صحة قول الشيوعي عن نوايا المجلس العسكري من وراء الاتفاق إلا أن مجلس السيادة الذي غلب فيه العسكريون وقاد مفاوضات السلام، لم يتجاوز صلاحياته الدستورية كثيراً.
ربما كانت الدعوة إلى إلغاء الاتفاق إبعاداً في النجعة. وخرج حتى إبراهيم الشيخ الذي استنكر الاتفاق في طوره الجنيني على مائدة المفاوضات كما رأينا ليقول إنه داعم له محذراً من النكوص منه طالما صار استحقاقاً دستورياً. ولم ير ياسر عرمان من الحرية والتغيير المجلس المركزي أيضاً صواب إلغائه على رغم رأيه السيئ في الحركات التي وقعت على الاتفاق وكان منها يومها، فقال إنها انقلبت على برامجها في الإصلاح الهيكلي لمركز الدولة والديمقراطية لتتحالف مع المركز القديم وتقف مع الانقلاب الذي هدم الثورة، وأضاف أنه يتفهم الغضب الجماهيري على سلوك قادة الحركات الأطراف في الاتفاق، لكنه لا يراه يرقى إلى سبب لإلغاء الاتفاق، بل إلى إعادة نظر جدية فيه.
وستكون إعادة النظر الجدية هذه بمثابة توطين مبادرة السلام في الديمقراطية وهو توطين ليس من عقائد صفوة الهامش مثل مسلحي دارفور، فغالباً ما وقعوا اتفاقات مع نظم أو سلطات عسكرية قصدت إلى استيعابهم في قسمة الوظيفة في المركز بغير اكتراث لتنزيل السلام إلى قواعد أهلهم، فكان نقد العقيد جون قرنق لاتفاق سلام أديس أبابا (1972) بين نظام الرئيس نميري (1969-1985) والقوميين الجنوبيين أنه مثل طبعة ثانية من “السودنة”. و”السودنة” هي العملية التي حل بها سودانيون وظائف الإنجليز بعد استقلال السودان وكان حظي بتلك الوظائف في وقتها صفوة من شمال السودان النيلي (ما يعرف بالمركز في مصطلح صفوة الهامش) دون غيرهم.
هل ينجح اتفاق جوبا في ظل تشابك المسارات؟
كانت اتفاقات الإنقاذ مع حركات دارفور واحدة بعد الأخرى منذ 2004 من نوع الطبعة الجديدة للسودنة ويجمع بين كل تلك الاتفاقات أنها لم تدم لأن النظام العسكري ضيق الصدر بها متى لم يعد يحتاج إليها، فألغى نميري اتفاق 1972 من جانب واحد ووجدت صفوة دارفور، من الجانب الآخر، أن مساحتها في الحركة السياسة بعد الاتفاق مع نظام الرئيس البشير تكاد لا توجد واضطر مني مناوي أحد الموقعين لاتفاق سلام جوبا الحالي وحاكم ولاية دارفور، إلى العودة للحرب مرة ثانية بعد اتفاق السلام الذي انعقد بينه والإنقاذ في مدينة أبوجا بنيجيريا في 2006، وتجد الموقعين على اتفاق جوبا الحالي سبقوا الآن إلى الإعلان عن ضيقهم ذرعاً بالتسويف في إنفاذ مادة دمج قواتهم في الجيش السوداني في الاتفاق، فلا أحد تحسب لكلفة هذه العملية المسرفة ولا لكلف أخرى مثل طاقة موازنة السودان لتخصيص 700 مليون دولار سنوياً لدارفور لرفع خراب الحرب عنها، وألهم تنصل الحكومات العسكرية من الإيفاء بالتزامات مواثيقها مع صفوة الهامش أبل ألير، السياسي البارز في جنوب السودان، عنوان كتابه “التمادي في نقض العهود” عن محنة صفوة الهامش مع المركز الشمالي.
وربما شمل التفكير عن اتفاق جوبا “خارج الصندوق” في قول ياسر عرمان استصحاب الحركة الشعبية لتحرير السودان (عبدالعزيز الحلو) وحركة تحرير السودان (عبدالواحد محمد نور) في مبادرة السلام، فصعب حقاً أن نتكلم عن سلام في السودان وقد اعتزلته الحركتان، فمتى قدمت الحركتان إلى مائدة التفاوض للسلام لن تصمد نسب السلطة ومحاصصتها بين المركز والأقاليم التي نالتها أطراف اتفاق جوبا الحالي، فأوزان الحركتين المرموقة في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق ربما استدعت تعديلاً جذرياً في تلك النسب والمواقع.
وسيكون ضمن جدول أعمال مراجعة اتفاق جوبا بالطبع إلغاء المسارات، “الزائدة الدودية” في الاتفاق، لشمولها أقاليم لم تخض حرباً على أن لها قضايا تاريخية مع المركز حول التنمية والموارد ومن المبشر أن أطراف جوبا قبلت في ميثاق أخير لها بتجميد مسار الشرق وأن تكون نظارات البجا والعموديات المستقلة طرفاً لا غنى عنه في أي مفاوضات تجري لإعادة النظر في المسار.
لقد تأخرت هذه الأطراف طويلاً في النزول إلى إرادة جماعات الشرق الشرعية في ألا يفتى في أمرها في غيابها ووقع ضرر كثير من تأخرها والخير في أن تأتي متأخراً لا ألا تأتي، وقد لا نحتاج إلى اتفاق جوبا للسلام لتفاوض حول قضايا الشرق وغيره من الأقاليم. سيغنينا مؤتمر قومي نعرض عليه قضايا التنمية والحكم لكل السودان بما في ذلك الأقاليم التي تمثلها حركات مسلحة.
ستسلك هذه المراجعة الجذرية لاتفاق جوبا إذا لم ترها أطرافه الدارفورية مجرد إملاء عليها هي عازفة عنه. فمن الصعب على هذه الأطراف نفسها بعد عامين من توقيع الاتفاق أن تزعم أنه أحسن إلى دارفور سوى في أنه “طبعة سودنة” جديدة في أحسن الأحوال، وهي طبعة بدأت تستثير صفوات من دارفور مثل الهيئة العليا للحكم الذاتي لجنوب دارفور، فتصدر عنها بيانات تحتج على استئثار الحركات المسلحة والإثنيات التي خرجت منها بثمار هذه الطبعة من دونهم.
إندبندنت عربية