رأي ومقالات

ياسر يوسف: الكل يريد محادثة الجنرال

علي عكس الجنرال سيمون بوليفار في رواية غابرييل غارسيا ماركيز ( لا أحد يحادث لجنرال ) فإن الجميع في السودان تسرهم محادثة الجنرال بكري حسن صالح ( إبن البلد الأصيل ) والذي تنطبق عليه صفات السوداني التي يجملها الشاعر ود الشلهمة :
*نِيـــلاً فِيـكْ مَصَالَـحْ العَالَمِيـــنْ مُجْتَمَعة*
*وأصْــــلاً مَا حَصَلْ بِى لـُوۤمْ تَغُشَّكْ طَمْعَة*
*نَضِيـفْ مِنْ الدَّهَرْ مَا وَسَّخَكْ بِىۤ لَمْعَة*
*يَا الجَامْع الحَويۤتْ فَضَلَ الجَمِعْ والجُمْعَة*
أكتب هذه الخواطر عن شخصه الكريم بينما لا يزال الرجل جبلا راكزا يتحدي ريب الزمان وظلم ذوي القربى الذي هو أشد مضاضة علي المرء من وقع الحسام المهند ..
( 1 )
( *وكت مواطن يطلب من الحكومة إحترام حكم المحكمة دا ما داير توقف *منك* ، *قول لي عثمان* *go a head* )
في مكالمة هاتفية قبل الفجر بقليل كان صوت الجنرال طويل القامة مستقيم المواقف يأتيني آمرا أن تحل بالتراضي مشكلة إعتصام العاملين في صحيفة التيار لناشرها الأستاذ عثمان ميرغني ، وقد دخلوا يومذاك في إعتصام مفتوح في مبني الصحيفة إحتجاجا علي إيقاف الصحيفة من الصدور بقرار من السلطات الحكومية ….
كانت تلك كلماته وقد نقلت له ملخص لقائي الذي تم بعد الواحدة صباحا مع الأستاذ عثمان ميرغني في مكتب الأستاذ الصادق الرزيقي نقيب الصحفيين بصحيفة الإنتباهة وقد اتفقنا مع عثمان علي ( فض الإعتصام ) سلميا بعد مبادرة يقودها ( كرام من الصحفيين ) وكان طلب عثمان واحدا ، وهو انتظاره لحكم محكمة يتيقن ان الحكم فيها لصالحه ويرجو ألا يتدخل الأمن لمنع تنفيذ حكم المحكمة بعودة صحيفته ..
تضئ هذه القصة علي بساطتها جوانب مهمة في شخصية الجنرال بكري حسن صالح القادم من منطقة حفير مشو في دنقلا بالولاية الشمالية ليكون واحدا من أبرز الرجال الذين ظلوا في مواقع التأثير في تاريخ السودان طوال فترة حكم الإنقاذ التي إمتدت ثلاثين عاما كاملة ، فضابط المظلات المنضبط ظل وفيا طيلة مسيرته المهنية للقواعد الصارمة التي تعلمها في بواكير شبابه بالكلية الحربية وهي اليقظة التامة وإنجاز المهام الموكلة إليه علي أحسن ما يكون الإنجاز ، وأضافت خبرات الحياة ودهاليز المسيرة السياسية الشاقة التي سار فيها خبرات متراكمة ومعارف في الحياة متنوعة حتي صارت جزءا أساسيا في تركيبة الجنرال صاحب السيرة النقية في مضابط القوات المسلحة السودانية ، فقد عرف الرجل بكفاءته الفائقة في إنجاز المهام الخاصة التي توكل إليه بكل هدوء وسرية ملتزما فيها بضوابط القانون والمعايير المهنية الصارمة أيا كانت تلك المهمة ، وما يميزه عن الكثيرين في ذلك قدرته النادرة في المحافظة بين الخطوط التي تفصل مهام الوظيفة العامة بكل ما تتطلبه من حسم وعزم عن الجوانب الإنسانية الأخري التي ظل شديد الحرص عليها والوفاء بمطلوباتها الإجتماعية الشاقة صغرت أم كبرت ، وأردف ذلك ببعده عن الإنشغال بالصغائر التي تفتح السبل لبعض المسؤولين نحو هاوية السقوط وأودية ( الحفر ) وما أكثرها في دنيا السياسة السودانية ،،
، في القصة التي بين أيدينا كان الجنرال متفهما للتقاطعات الداخلية في الحكومة التي يرأس وزراءها واعيا بحجم تعقيد هذا الملف تحديدا ولكنه في ذات الوقت كان حريصا علي المحافظة علي حقوق الآخرين الذين ينظر إليهم علي أنهم مواطنون تحت مسؤوليته وإن اختلفوا معه ، لذلك لجأ إلي ما يتقنه وهو إنجاز المهمة بطريقته الخاصة بالتواصل المباشر مع صاحب المظلمة ورفع الإعتصام عبر تدخل لجنة من كبار الصحفيين ونتيجة ذلك هو خروج كل الأطراف رابحة من ( التسوية ) ودون أن يكون هناك ( أثر ) لتدخل مباشر من الحكومة …
( 2.)
إرتبط إسم الجنرال ومسيرته بتولي المهام الأمنية والعسكرية منذ بواكير الإنقاذ وإلي خروجه ( المحير ) من مهام التكليف قبل شهور من أفول تلك الحقبة الوطنية المهمة ، وذلك يرجع بالأساس لشخصيته المعروفة بكتمان الأسرار والمقدرة علي العمل من وراء الظلال دوره في ذلك كدور لاعب المحور الذي لا يحس بوجوده الكثيرون ولكن دوره دائما مؤثر في الدفاع والهجوم ، بجانب كل ذلك يمتاز بالقدرة المدهشة علي الإنصات والإستماع لأطول فترة ممكنة دون مقاطعة من يحادثه ثم الرد بإختصار شديد علي كل النقاط التي يستدعيها من ذاكرته التي لم تؤثر فيها السنوات ولا ثقل الملفات أو ( آلام السكري ) …
غير أن الملفت في هذه الجزئية هو بقاؤه في منصة القيادة وحيدا ( بعد المشير ) من ضباط ليلة الثلاثين من يونيو بعدما تفرقت السبل برصفائه في المسيرة الطويلة وتبدلت ببعضهم القناعات بينما اختار آخرون الصمت والإنزواء ، وإذا عنّ لك تساؤل هنا عن سر هذا البقاء فالإجابة تكفيك فيه كلمة واحدة وهي ( الثقة ) فقد عرف عن الجنرال وفاؤه المطلق غير المقيد بحسابات الأرباح الفردية والمكاسب الذاتية ، وإذ يبذل ذاك الوفاء فإنك تحس به وفاء تلقائيا متأصلا دونما تصنع يفضحه تمثيل أو تزلف تنكسر به الأنفس الشم ، وما يؤكد هذا الإدعاء هو أن الثقة عنده مبذولة ( للرئيس والمرؤسين ) علي السواء وبذات مقدار القياس المجرد ( لا خيانة ولا تخوين ) وفِي سياق الحديث عن الثقة أتذكر حديثا دار بينه وبيني في ليلة شاتية في ( ديوانه العامر بالناس ) وقد ارتفعت يومها دعوات تعديل الدستور قبيل انتخابات ٢٠٢٠ المتوقعة ، جادلته مشفقا علي مترتبات عدم إعلانه موقفا جهورا من تلك الدعوات ، صمت برهة قبل أن يجيب ( إذا احتاج الزمان مني تصريحا لتأكيد ولاء أو نصرة موقف فباطن الأرض خير من ظهرها وعلي الدنيا السلام ) …
( 3 )
تحتاج شجرة النخيل من أربع إلي خمس سنوات لتثمر وخلال هذه المدة لا بد أن يتعهدها صاحبها بالرعاية اللازمة والمتابعة المستمرة ، وكأن الجنرال عاشق النخيل وزراعته قد أخذ منه التروي في الإثمار والإبطاء في الإنجاب ، فكذلك كان نهجه في إتخاذ القرارات ، يعكف علي جمع المعلومات ثم يحللها ، وهذه مناسبة أن نذكر فيها أنه ما من رجل يجلس علي تلة من المعلومات عن الناس والمواقف كالجنرال ، ومن بعد التحليل الدقيق يقدم علي إتخاذ قراره ، وبالتأكيد ربما تتأثر بعض الإجراءات التي لا تحتمل التأخير ولكن ضابط القوات المسلحة التي تعلم التسلسل في إتخاذ القرار وفقا لنقاط ثابتة لم يكن علي إستعداد للتخلي عن طريقته حتي ولو لم تكن مرضية للآخرين ، فقد كان حرصه علي إتباع المؤسسية عظيما وإشراك المسؤولين عن الملف المعني بإتخاذ القرار ضروريا لذلك يحرص علي أخذ المعلومات من الوزارة المعنية ثم يستكملها أو قل يستوثق من بعضها ( بطريقته المعهودة ، طريقة رجال المهام الخاصة ) ، ولحرصه الشديد علي دقة معلوماته كان دائم التدقيق والإعداد وطلب التقارير بين يدي كل مؤتمر صحفي أو مخاطبة لفعالية من الفعاليات ، ويلخص تلك التقارير في أوراق صغيرة بخط جميل وملفت لم أر مثيلا له إلا عند د الحاج آدم يوسف يستذكرها في العربة مستغلا مشوار ( المكتب / البيت ) ..
وإذ يمارس الرجل ذلك التأني والتدقيق أسلوبا في إدارة ملفاته ملتزما فضيلة المؤسسية فإنه كان واعيا بطبيعة التركيبة الدقيقة والمعقدة لمنظومة السلطة في عهد الإنقاذ ، خاصة بعد إستحداث منصب رئيس الوزراء الذي يستمد صلاحياته بتفويض من ( صاحب الشأن ) وما بين القوسين هو تسمية الجنرال للرئيس حين يأتي الحديث عن الصلاحيات والإختصاصات ، تلك المنظومة التي تتوزع فيها الاختصاصات بين الرئاسة والحكومة من جانب والحزب من جانب آخر ، ومن طرف خفي كان مراعاة ترضية القوات المسلحة حاضرا في بعض القرارات ومهما ، في تلك الأجواء برز جند حساسٍ في المشهد العام وهو موضوع تعديل الدستور إستباقا لإنتخابات العام 2020 وذلك بعد شهرين فقط من تكوين حكومة الحوار الوطني ، وهو الأمر الذي زاد التعقيد صعوبة علي صعوبته في التعامل مع القضايا الشائكة في تلك المرحلة التي انعقد فيها مجلس شوري الحزب وأرجأ توصية تتعلق بذلك الموضوع ، فتحت نتائج ذلك الإجتماع قوسا لم تنغلق أطراف تداعياته حتي اليوم ، إذ بدأت بتعديلات واسعة في الحزب والجهاز التنفيذي ، وانتهت تداعياتها الظرفية إلي ما هو مسطر ومكتوب ..
( 4 )
ظل الجنرال عضوا دائما في المكتب القيادي للمؤتمر الوطني وهو أرفع مؤسسة تنظيمية في الحزب يناط بها إجازة المواقف وإبتدار السياسات ، بل كان له مع آخرين الدور الأبرز في مذكرة العشرة الشهيرة ، واحتل مقعده نائبا للرئيس للشؤون التنفيذية بحكم موقعه في الجهاز التنفيذي ، ومع كل تلك الأدوار والمواقع التي تقلدها في الحزب إلا أنه اختط لنفسه منهجا أقرب لشعرة معاوية في علاقته بالحزب وشؤونه الداخلية ، لا يقترب إلا بمقدار ما يكون الإقتراب حوجة لترجيح كفة أو ( إستعدال ميلان ) أما دون ذلك فقد حافظ علي قومية رجل القوات المسلحة التي ظل شديد الإفتخار بالإنتماء إليها وثيق الصِّلة بأفرادها دائم التواصل مع أبناء دفعته وغيرهم من رجالاتها ممن لا زالوا في الخدمة أو كانوا في المعاش .
وما يؤكد قوميته هو عمق تواصله مع فئات المجتمع السوداني المختلفة ، فلا تكاد تجد واحدا من السودانيين صفوة كانوا أو عامة إلا ولهم قصة مع الجنرال حتي أن المرء ليحتار كيف وجد وقتا لنسج هذه العلاقات المتسمة بالكثير من التقدير والإحترام والممتلئة بالجوانب الإنسانية المشرقة ، وبالتأكيد لم تستطع القيود الحزبية أن تؤطر منهجه في التواصل مع الناس أو تقيد حدود علاقاته بالمجتمع ورموزه ، وأتذكر هنا ذات مساء سألني عن الأخبار في الوسط الإعلامي فانتهي بِنَا الحديث إلي أن الأستاذ الرشيد بدوي عبيد مريض في منزله ، فاجأني ( نمشي ليهو طوالي ) ، حاولت أن أؤخر الموعد ليوم أو يومين بغرض الترتيب وإبلاغ عدد من الصحفيين الرياضيين ، رد عليّ ( لا تتعلم تأخير الواجب يا صديقي ) وتلك واحدة من مزايا الرجل الذي لا تنقطع ( مراسلاته ) للجميع في كل المناسبات ..
قاعة المكتب القيادي للحزب قاعة دائرية يوجد بها ٤٦ مقعدا بعدد أعضاء المكتب ، مقعد الرئيس يواجه باب القاعة وعلي يمينه يجلس دائما نائب رئيس الحزب وعلي شماله نائب الرئيس للشؤون التنفيذية و يتوزع بقية الأعضاء يسارا ويمينا لكل منهم مقعد ثابت بحسب العرف والتعود ، وصل الجنرال لأول إجتماع بعد إعفائه متأخرا نوعا ما علي غير عادته وجلس عند الباب مجاورا لمقعد البروف سعاد الفاتح وكان مقعده ( القديم ) جوار الرئيس فارغا ، أصر عليه المجتمعون أن يذهب هناك لكن الرجل رفض رفضا شديدا ، إضطر الرئيس لإيقاف الإجتماع قائلا ( بكري ! تعليمات تعال هنا ) ..
وقف الرجل بقامته المديدة ، أدي التحية العسكرية وتوجه لذلك المقعد ..
هكذا كانت العلاقة وهكذا ظلت بين الرجلين ، ولكن هل فات علي رجل المعلومات والمهام الخاصة قراءة ما كان يعتمل في كواليس السياسة حين غادر موقعه ؟
يقينا كان الرجل يتوفر علي قراءة ما تنتهي فصولها إلي وجود تحرك جاد لإسقاط الحكومة وكانت جلسة الإبلاغ برفع التكليف قد ناقشت ذلك السيناريو وخرج الجنرال مطمئنا بعد أن وجد أن الرئيس يتوافر علي نفس المعلومات والتحليلات بالتأكيد ، ولكن ( حدث ما حدث ) من المأمن الذي يؤتي منه الحذر ..
ومن إحترامه لكل الأجيال وثقته المطلقة فيمن يعمل معه كان يناديني ( يا صديقي ) ،
وليسمح لي بإستلاف عبارته وقد تأخرت هذه الشهادة كثيرا فأقول له ( هذه مجرد تداعيات جاءت عفو الخاطر ، أما أوان الشهادات الكبري فلم يأتِ بعد يا صديقي ) ..

ياسر يوسف إبراهيم