نهض البرلمان السوداني على أكتاف قادة الحركة الوطنية ورموزها في الكفاح ضد الاستعمار، ودرب عدد من النواب والوزراء السودانيين على نظم وسلطة الحكم والحياة البرلمانية، قبل إجازة قرار دولتي الحكم الثنائي بمنح السودان “الحكم الذاتي” الذي توجت به تلك المرحلة.
وشهدت تأسيس أول برلمان سوداني في مبنى عريق بشارع الجمهورية، حيث مارس نشاطه خلال تلك الفترات الانتقالية، ومهدت لتقرير المصير وإعلان الاستقلال من داخل البرلمان في 19 ديسمبر (كانون الأول) 1955.
وكان مبنى البرلمان خلال فترة الحكم البريطاني- المصري يقع في شارع السردار (الجمهورية) لاحقاً، وأصبح في ما بعد مقراً لـ”مجلس تشريعي ولاية الخرطوم” بعد أن شيد مبنى البرلمان السوداني (المجلس الوطني) الحالي الكائن عند مدخل مدينة أم درمان العاصمة الوطنية للسودان، على مقرن النيلين الأزرق والأبيض في سبعينيات القرن الماضي.
وقع الاختيار على هذه النقطة بعد اقتراحات عدة من ضمنها موقع مستشفى السلاح الطبي بأم درمان، الذي استبعد لانخفاض المنطقة، وصمم في منطقته الحالية بشكل مقاوم للزلازل والهزات الأرضية.
بدأت التجربة البرلمانية في السودان بتكوين مجلس الحاكم العام البريطاني عام 1910 لبحث وإجازة القوانين واللوائح والأوامر التي يصدرها، ثم أنشئ المجلس الاستشاري لشمال السودان في الفترة من 1943 إلى 1948 من 30 عضواً من زعماء العشائر ورجال الدين برئاسة الحاكم العام.
أما أول مؤسسة تشريعية في البلاد فتأسست عام 1948 وبلغت 79 عضواً برئاسة محمد صالح الشنقيطي، وعقدت فيها الانتخابات البرلمانية الأولى عام 1953، والثانية عام 1958، والثالثة 1965 وكان الحدث الأبرز فيها هو دخول أول امرأة سودانية وعربية البرلمان، وهي فاطمة أحمد إبراهيم، وذلك بانتخابات ديمقراطية بعد إطاحة نظام الفريق إبراهيم عبود في انتفاضة شعبية في أكتوبر (تشرين الأول) 1964، ثم جاءت الانتخابات البرلمانية الرابعة عام 1968.
أما الانتخابات البرلمانية الخامسة فكانت عام 1986، ويعد برلمان 1953 أنجح البرلمانات في تاريخ السودان السياسي، فقد أرسى قواعد النظام الذي يقوم على تداول السلطة سلمياً، وأجاز قرار دولتي الحكم الثنائي (بريطانيا ومصر) بمنح السودان الحكم الذاتي، وأنجز “سودنة” الوظائف و”جلاء” المستعمر البريطاني والاستقلال.
رمز مايوي
شيد البرلمان “المجلس الوطني” السوداني في عهد الرئيس جعفر النميري، الذي كانت تربطه علاقة صداقة مع الرئيس الروماني آنذاك نيكولاي تشاوتشيسكو فبعث أحد معماريي رومانيا، وهو نفسه الذي صمم مبنى البرلمان الإسرائيلي (الكنيست).
وعلى الرغم من قوة الرواية، التي تفيد بأن مبنى البرلمان مستوحى من “الكنيست” الإسرائيلي، فإن هناك من أرجع تصميم سوره المكون من خمسة أعمدة طويلة و25 عموداً قصيراً، إلى رغبة النميري بتخليد أحداث 25 مايو (أيار) 1969 وأزيلت الأعمدة بعد ذلك ضمن حملة “كنس آثار مايو.
يذكر أن انقلاب مايو، الذي قام به النميري، أطاح بحكومة إسماعيل الأزهري أول رئيس وزراء للسودان بين عامي 1954 و1956، ورئيس مجلس السيادة السوداني منذ عام 1965 حتى انقلاب النميري واستمراره في الحكم حتى السادس من أبريل (نيسان) 1985 وإسقاطه بانتفاضة شعبية.
استمر عمل البرلمان حتى سقوط البشير في 11 أبريل 2019، على أثر اندلاع ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، وكجزء من انتقال السودان إلى الديمقراطية شكل “المجلس التشريعي الانتقالي”، الذي كان من المفترض أن يستمر في العمل كهيئة تشريعية حتى انعقاد الانتخابات، التي كان مقرراً لها عام 2023، لكن حله رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان ضمن إجراءات 25 أكتوبر 2021.
نموذج “الكنيست”
أكد تطابق تصميم “المجلس الوطني” مع “الكنيست” الإسرائيلي وزير المالية في عهد النميري إبراهيم منعم منصور، الذي ذكر في حديث منشور أنه “عندما طلب الرئيس السوداني النميري من الرئيس الروماني نيكولاي تشاوشيسكو مساعدة السودان في تشييد مبنى البرلمان، قام بدوره بتحويل الأمر للجهات المنفذة التي حددت التكلفة الكلية التي تضمنت التصاميم والمباني والمعدات الكهربائية، وتقرر تشييده بقرض جزئي بلغ نحو 10 ملايين دولار تكفل السودان بـ60 في المئة بينما تكفلت رومانيا بـ40 في المئة”.
وأوضح منصور أن “الوفد السوداني عندما طلب من الوفد الروماني تقليل تكلفة التصميم، وفر لهم أحد مساعدي الرئيس الروماني خريطة وتصاميم جاهزة لمبنى الكنيست الإسرائيلي على أن يستعان بها مجاناً وتسحب تكلفة التصميم”.
يتكون “المجلس الوطني” من أقسام رئيسة، هي ثلاث قاعات كبيرة لانعقاد جلسات المؤتمرات، وقاعتان لاجتماعات لجنتي الأمن والدفاع، وجناح مكتب الرئيس، وجناح مكتب نائب الرئيس، وخمسة مكاتب للجان المتخصصة.
استلهام التراث
قال البروفيسور المعماري هاشم خليفة محجوب “من أهم مظاهر تصميم مبنى البرلمان أنه جاء على شكل كتلة واحدة مهيمنة تستدعي روح وإحساس معابد الحضارات الضاربة في القدم، سبق المصمم بتلك الأفكار النيرة الجديدة زمانه ببضع سنوات، استلهام التراث الكلاسيكي لصياغة عمارة حداثية ظهر في إطار توجه عام اجتاح الغرب الأوروبي وأميركا في خواتيم عقد سبعينيات القرن الماضي، انبثقت منها مدرسة يشار إليها بالكلاسيكية الراجعة”.
وأضاف “استثمر المصمم الذي يحمل نفساً كلاسيكياً المساحة جيداً، وغلف مبنى البرلمان وكساه بمنظومة لونية، كما جعله يحاكي معابد البارثنون درة عمارة حضارة اليونان القديمة”.
وذكر المعماري “كما تميز بواجهات شرقية وغربية منحته إطلالة على النهر والشوارع الرئيسة، وتشكل الأعمدة الخرسانية الرفيعة الناهضة أمام واجهات المبنى الزجاجية جزءاً مهماً من منظومة كاسرات أشعة الشمس”.
من يمول جيوش السودان؟
وأوضح “عزز المصمم فكرة تصميم المبنى على شكل كتلة واحدة ترمز للوحدة، حيث اختار شكلاً عاماً أقرب من شكل المكعب وتأثيره القوي الذي يعد مؤشراً ورمزاً للوحدة. وقد كان أفلاطون قد عبر عن افتتانه بمثل هذه الأشكال النقية نسبة لما لها من عميق أثر في العين والروح، لهذا السبب صار يشار إليها بالأشكال الأفلاطونية”.
وواصل محجوب “رفع المصمم الطابق الرئيس للمبنى بمقدار ثلاثة أمتار وجعله بارزاً أكثر من الطابق الأسفل، هذه المعالجة المعمارية إضافة إلى كاسرات أشعة الشمس في الجزء الأعلى من المبنى جعلته يبدو كأنه يهم بالتحليق”.
وتابع “أما العمارة الداخلية فأضفى عليها بعداً بستانياً أكسبها حيوية فجاءت آية في التفرد وحملت فنيات نظام العرش الإنشائي، وتبدأ من بهو الدخول من درجين عريضين طائرين متباعدين في بداياتهما لكنهما يلتقيان في الجزء الأعلى منهما ليفضيان معاً إلى الطابق الأعلى المحيط بالبهو، ويلتف زوجا الدرجين حول بركة داخلية تتقافز فيها النوافير التي تتسلل إليها أشعة الشمس من خلال فتحات زجاجية”.
“وجاء الاهتمام بمنطقة البهو بتزيينها بالعناصر المائية ومكونات البستنة الداخلية، لأنها بهو دخول واستقبال ومنطقة يلتقي فيها نواب البرلمان ومن يرتادون جلساته، ونسبة لأهمية وطبيعة اللقاءات المؤثرة التي تضمها جنباته”.
برلمان الجن
لم تمت الأساطير في المجتمع السوداني، وذلك لارتباطها بالموروث الشعبي، لكن تعلقها بالسياسة نادر نوعاً ما، إلا إذا تقاطعت مع بعض الأحداث الدينية والمعتقدات، بعد الانتهاء من تشييد مبنى البرلمان وارتياده من قبل النواب لحضور الجلسات، شاع عنه أنه مسكون بالجن.
وحكى برلمانيون وعمال عن أنهم شاهدوا أشخاصاً بهيئات غريبة في أوقات مختلفة يتجولون في ردهات المبنى ويختفون فجأة، وأحداثاً من بينها أن الأبواب تغلق وتفتح وتتحرك قطع الأثاث من دون تدخل بشري، وسماع همهام وقهقهات وصراخ غير معروف المصدر، وحدوث حرائق في أوقات مختلفة بلا سبب معروف.
ويذهب التفسير الشعبي في اتجاهين، الأول هو أن البرلمان بني فوق أنقاض سجن عسكري في إحدى الحقب التاريخية، ونفذت فيه أحكام إعدام على عسكريين وأنه كانت ثمة مشانق منصوبة وبئر تابعة للسجن.
أما التفسير الآخر فتعود قصته إلى أن المكان الذي شيد فيه هو قبة تحتوي على ضريح لأحد شيوخ الطرق الصوفية يدعى بر أبو البتول، ولعدم تمكن أعوان النميري من إقناع أتباع الشيخ بنقل ضريحه إلى مقابر أخرى، استعان النميري برجل دين آخر هو الشيخ أبو زيد محمد حمزة زعيم جماعة “أنصار السنة” الخصم التقليدي للصوفية، لنقل الضريح إلى مقابر “حمد النيل”، وإزالة القبة.
وقبل أشهر قليلة استعين بالشيخ (أبو زيد) لنقل ضريح رجل دين آخر هو الشيخ إدريس أبو فركة وهدم القبة، لتشييد مبنى “قصر الشباب والأطفال” وهو المبنى المواجه للبرلمان، ما يعني أن تلك المنطقة وأجواءها مشبعة بالمعتقدات الروحانية، وتضج بزيارات الأتباع والحواريين الذين سببوا إزعاجاً للمهندسين الأجانب وتصاعدت اعتراضاتهم على هذه الإنشاءات.
وتقف القصتان أمام ثالثة هي وجود مقابر قديمة في المنطقة ليبرز معها تفسير آخر هو انتشار الأرواح الشريرة.
قلق واضح من هذه الحوادث الغريبة التي بدأت تتكثف وسقط من جرائها ضحايا من موظفي وموظفات البرلمان، وحسب ما جاء في الصحف أن أعراض الإصابة التي أدت لوفيات عدد منهم تمثلت في هبوط حاد في الدورة الدموية، وحالات من الإجهاض وكلها مرتبطة بروائح غريبة.
تعقيدات هندسية
يقول المهندس السابق بوزارة التخطيط العمراني إبراهيم عطا المنان، إن “المعلومات الخاصة المتزامنة مع تلك الأحداث تشير إلى أن بيئة مبنى المجلس الوطني غير صحية، لأنه بني في سبعينيات القرن الماضي ولا يخضع للصيانة الدائمة، خصوصاً مع تغير النظم الحاكمة، وأن الجهات المعنية بتنظيفه وصيانته ورشه بالمبيدات تبرر صعوبة ذلك نسبة لتعقيدات تركيبته الهندسية، وهذا العجز في الصيانة خلق منه بيئة مناسبة لانتشار الفئران والخفافيش، ومعلوم تأثيرها في الصحة”.
وأضاف “أما الحرائق فلا دخل لنوع التصميم بها وإنما يتعلق ذلك بتنفيذ شبكة الكهرباء والمحولات الرئيسة والفرعية والمولدات الكهربائية، ونوع مطافئ الدفاع المدني وجودتها، فإذا لم تكن متقنة ومكسوة جيداً فهي تتسبب في ذلك، لكن يمكن أن يكون التصميم التاريخي القديم لعب دوراً وأضر بتوصيل الشبكة في الخارج مما جعلها تتعرض للتلف”.
وأوضح “معظم الحرائق تحدث بسبب ارتفاع درجة حرارة الجو والسلوكيات الخاطئة لمرتادي البرلمان، سواء من العمال أو النواب، بعدم التخلص من الأوراق التالفة والمخلفات من أماكن تجمعها، ويمكن أن يسهم رمي عقب سيجارة أو شرارة من تماس كهربائي في إحداث حريق كبير ومتكرر بتكرر هذه الأخطاء”
مني عبد الفتاح
إندبندنت عربية