جعفر عباس يكتب: صنع الجميل عائده أجمل

هل ما زال في مناهج اللغة المدرسية ما كان يعرف في زماننا بالقراءة الصامتة؟ على كل حال فمن حكايات المطالعة والقراءة في المرحلة الابتدائية التي مازالت ذاكرتي تختزنها، حكاية الرجل الذي كان مطالباً بجلب شعرة من شارب أسد، (لا أذكر هل كان ذلك للنجاة من عقوبة أم كشرط للزواج ببنت السلطان) وشاء حظه أن يجد أسداً يعرج لأن شوكة انغرزت في قدمه، واقترب الرجل من الأسد وانتزع الشوكة وجلس يمرر يده فوق وبر الأسد الذي استسلم له، فانتزع الشوكة من قدمه، ثم – والأسد مستسلم ومسترخ، نزع الشعرة المطلوبة من شاربه وعاد بها، وكان عنوان تلك القطعة “الحسنة معطت شارب الأسد” (معط يمعط مستخدمة في العامية السودانية بمعناها الفصيح “نتف ينتف” ينتزع ويقال عن الشخص الذي لا شعر في جسمه أنه “معطٌ”). وقفزت هذه الحكاية من أرشيف ذاكرتي إلى خطوطها الأمامية بعد أن قرأت في صحيفة كويتية، حكاية ولدين حدثين من العاصمة الإيرانية طهران، عانيا من البطالة وقلة المال، فقررا اقتحام شقة سكنية كانا يعرفان أنها مملوكة لزوج وزوجة من الأغنياء، وكانا يعرفان ايضاً أن الزوج غير موجود في البيت في اللحظة المحددة للاقتحام، وطرقا باب البيت فأتتهما ربة البيت فزعما أنهما من رجال البريد، وسرعان ما استل أحدهما سكيناً ووضعها على عنق المرأة مطالباً إياها بتسليم كل ما في البيت من نقود ومجوهرات، ولكن المرأة لم تكن من فصيلة: أبي أمي، أبي أبوي، أبي زوجي، ولا من الشاكلة التي تصيح: يا لهوي.. ولا من النوع الذي يغمى عليه في المواقف الصعبة! وفي الوقت نفسه فإنها لم تكن بطلة كاراتيه أو ذات لياقة بدنية عالية!! كانت فقط رابطة الجأش، وقالت للولدين ما معناه: لن أعطيكما ولا نصف تومان (ريال) ما لم تكونا مهذبين وتسمعان ما سأقوله لكما!! هنا صاح أحد الولدين: يا ولية نحن حرامية، ولازم نأخذ ما عندك برضاك أو غير رضاك ونخرج بسرعة!! ولكن الولية قالت له: خلي عندك أدب لما تتكلم مع واحدة في مقام أمك… انكتم وأقعد اسمع الكلام! ولأنهما كانا صغيرين دون خبرة سابقة في الإجرام، فقد جلسا و”انكتما” وطفقت سيدة البيت تحكي لهما قصة حياتها وكيف عانت في طفولتها من الحرمان واليتم وكيف أساء إليها أقاربها وعاملوها بخشونة وفظاظة: ضربوني بيد الهاون وقصوا شعري حتى سال الدم من فروة رأسي كلما طالبت بالطعام أو الذهاب إلى المدرسة، وتحملت الكثير، و… لم تستطع مواصلة الحديث لأن الحراميين انفجرا باكيين من فرط التأثر بما سمعاه، وبذلت السيدة جهداً كبيراً لكفكفة دموع الحراميين الخائبين، وأبلغتهما أن لحكايتها نهاية سعيدة وأنها نجحت بالعناد في مواصلة تعليمها، وأن الله قيض لها زوجاً طيباً وثريا، ثم دخلت غرفة النوم وعادت حاملة رزمة من الأوراق المالية وقدمتها لهما، ولكن الولدين رفضا تسلم النقود وطالباها بأن تتصل بالشرطة لتبلغ عنهما، فحسبت أنهما يقولان ذلك من باب البكش، ولكنهما قالا لها إنهما يستحقان السجن وإنهما لن يخرجا من بيتها إلا إلى مخفر الشرطة، فحاولت طمأنتهما وأقسمت أنها لا تعتزم الإبلاغ عن الحادث، ولكن احد الولدين استخدم هاتف البيت واتصل بالشرطة مبلغاً عن اقتحام لصوص للبيت رقم كذا وكذا، في شارع كذا وكذا، ولما أتت الشرطة فوجئت بأن البلاغ حقيقي، واصطحبت الولدين إلى المخفر ولكن ربة البيت رفضت تسجيل بلاغ ضدهما فأفرجت الشرطة عنهما. وللحكاية نهاية أكثر “جمالا”، ففور خروج الصبيين قادهما صاحب البيت الذي اقتحماه الى مصنعه ونظم لهما دورة تدريبية، وهما الآن عاملان ماهران عنده يكسبان الرزق الحلال، فانظر واعتبر ولزلات الآخرين اغفر، فالخير الكامن في النفوس أقوى من الشر، ولكنه يحتاج عند البعض الى التحفيز، فالكلمة والمعاملة الطيبة تعودان في أحيان كثيرة بنتائج أفضل من تلك التي تعود بها العقوبات، وكم من شخص ارتكب هفوة بسيطة ودخل السجن ثم خرج منه مجرما محترفا. راجت لحين من الدهر في العالم العربي روايات عن لص اسمه ارسين لوبين كان يلقب باللص الشريف وها هي الوقائع تأتي بلصين شريفين حقيقيين.

صحيفة الجريدة

Exit mobile version