تعتبر ظاهرة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في السودان من أبرز الأسباب الرئيسية في تدهور الاقتصاد الذي يعتمد بشكل عام على الصادرات والواردات في السنوات الأخيرة، ويشكل غسل الأموال مشكلة أساسية يجسدها الراهن الاقتصادي في البلاد نسبة للانفتاح عبر المعابر الحدودية التي تسهم بفاعلية في تنامي الظاهرة، فالولايات المتحدة الأمريكية تبنت معايير لمحاربة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وقامت بفرضها على كافة دول العالم خاصة بعد أحداث سبتمبر 2001 وتمكنت من جعلها جزءاً من مطلوبات صندوق النقد الدولي، ويمكن القول إن القصد منها إعطاء شهادات حسن السير والسلوك لإعفاء الديون وعدم الوقوع تحت طائلة العقوبات، بعض خبراء الاقتصاد وصفوا الجهد الذي حققته اللجنة العليا لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب لمطابقة قوانين السودان مع القوانين الدولية عمل ممتاز، بيد أنه يحتاج لإصلاح النظام المصرفي السوداني، وآخرون يعتبرون أن جرائم غسل الأموال تشكل خطراً جسيماً على الجانب الاقتصادي والاجتماعي في أي دولة خصوصاً تلك التي تعاني من ضعف المعايير المتخذة في مكافحة هذه الجرائم، وتجدر الإشارة إلى أن غسل الأموال تتمثل في المال غير الشرعي وغير مقصور، بل يشمل الأصول والممتلكات والموارد الاقتصادية، بما فيها الآثار التاريخية.
نهاية الأسبوع المنصرم، أجازت القطاعات الوزارية المشترَكة بمجلس الوزراء السوداني في اجتماعها، برئاسة وزير الدفاع المكلف الفريق ركن يس إبراهيم يس الاستراتيجية الوطنية لمكافحة غسل الأموال (2024 – 2020) وتمويل الإرهاب قدمها وزير العدل المكلف محمد سعيد الحلو، وتتضمن الاستراتيجية العديد من الأهداف أهمها وجود فهم موحّد لمخاطر جرائم غسل الأموال في ضوء نتائج التقييم الوطني للمخاطر توطئة لاتّخاذ الإجراءات التنفيذيّة اللازمة للحد منها، علاوة على تطوير وتحديث القوانين واللوائح والمنشورات ذات الصلة بمكافحة غسل الأموال بما يتوافق مع المعايير الدولية، فضلاً عن وجود نظم وآليات فعالة للتعاون والتنسيق الوطني والإقليمي والدولي لمكافحة جرائم غسل الأموال، وأثنى اجتماع القطاعات الوزارية بمستوى الاستراتيجية والجهد المقدر الذي بذل في إعدادها، مؤكداً على الدور المتعاظم للجنة الوطنية في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، موصياً بأهمية استخدام التقنيات الحديثة في عملية الرقابة على الحدود.
مشكلة أساسية
المحلل الاقتصادي الدكتور عادل منعم قال إن غسل الأموال مشكلة أساسية في الاقتصاد بحكم الموارد الضخمة التي يمتلكها السودان ونمو الإنتاج والإنتاجية عبر تلك الموارد، نوه إلى أن السعر الحقيقي للدولار ينبغي أن يتعدى 1500 جنيه في ظل وجود كساد في الاقتصاد الوطني، وأوضح أن السعر المتداول الآن غير حقيقي خاصة أن الدولار سلعة عالمية مثله كمثل الذهب والبترول يتأثر بالانخفاض والارتفاع، واصفاً السعر الحالي للدولار بالسوق السوداء بالتبادلي، وأشار عبر حديثه لـ(اليوم التالي) إلى أن تعدد المعابر في البلاد تجسد حقيقة غسل الأموال نتيجة للتهريب السلعي ودخول المخدرات التي يتم الإعلان عنها من فترة لأخرى.
وبدوره طالب بضرورة إغلاق جميع المعابر الحدودية لمدة ستة أشهر والإبقاء على معبر رئيس بورتسودان وبالتالي من خلال ذلك يمكن القول إنه أغلقت المعابر للحد من التهريب للوارد والصادر عبر معتبر الحدود، داعياً إلى تنظيم الاقتصاد حتى تتبين معرفة الحسابات الدقيقة لحجم الموارد من أجل المحافظة عليها بقيمة العملة الوطنية من العملات الأجنبية، ومن ثم تكتمل عملية الرقابة الحدودية وضبط الموارد.
ضعف الموثوقية
المحلل الاقتصادي الدكتور الفاتح عثمان محجوب، قال إن الولايات المتحدة الأمريكية تبنت معايير متشددة لمحاربة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وقامت بفرضها على كافة دول العالم خاصة بعد أحداث سبتمبر 2001 وتمكنت من جعلها جزءاً من مطلوبات صندوق النقد الدولي لإعطاء شهادات حسن السير والسلوك لإعفاء الديون ولعدم الوقوع تحت طائلة العقوبات الأمريكية، وأضاف: مع ذلك لا يعتبر السودان من الدول التي تشهد غسلاً كثيفاً للأموال إذ أن معظم غسل الأموال يتم في أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي وبعض دول الخليج العربي ودول جنوب شرق آسيا إضافة إلى بعض الدول الأفريقية مثل إثيوبيا ونيجيريا وجنوب أفريقيا ومصر، وتابع: أما تموبل الإرهاب بالسودان فهو شبه معدوم أصلاً لأن السودان بلد فقير، بيد أن وقوع السودان سابقاً تحت طائلة العقوبات الأمريكية المصرفية جعلته يعتمد على شبكة السوق الموازي لتحويل الأموال من وإلى السودان وهي شبكة يصعب على أمريكا تتبعها، وأوضح لذلك سعت أمريكا لإعفاء السودان من العقوبات الأمريكية المصرفية وإدخاله في شبكة سويفت، وأضاف: لكن ما زال النظام المصرفي السوداني يعاني من ضعف الموثوقية به من قبل المصارف العالمية والإقليمية بسبب ضعف كفاءة رأس المال نسبة لعدم وجود احتياطي مالي بالنقد الأجنبي في الخارج، وعدم وجود التقنيات الحديثة في مجال التحويلات المالية ولذلك يستخدم السودان نظام سويفت غالباً عبر وسيط إقليمي.
عمل ممتاز
د. الفاتح وصف الجهد الذي حققته اللجنة العليا لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب لمطابقة قوانين السودان مع القوانين الدولية عمل ممتاز، وشدد على أنه يحتاج لإصلاح النظام المصرفي السوداني أولاً لكي تنساب التحويلات المالية من وإلى السودان عبر شبكة سويفت الدولية للتحويلات المالية المصرفية ومن ثم تأتي القوانين لتنظم التعاملات المالية بحيث تتفق مع القوانين الدولية، ويرى أن من دون إصلاح النظام المصرفي يمكن لتلك القوانين أن تضر بالاقتصاد السوداني وتدمر تماماً نظام الصادرات السودانية بشكلها الحالي وربما تتسبب في انعدام السلع المستوردة، داعياً إلى تطبيق مشروع إصلاح النظام المصرفي، مشدداً على ضرورة أن يكون قبل تطبيق قوانين مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب.
عمليات إجرامية
المحلل الاقتصادي الدكتور وائل فهمي البدوي قال: رغم إن الأمم المتحدة قد عرفت غسل الأموال في اتفاقية فيينا منذ العام 1988 (مادة 3.1)، فإن البدء في تنفيذ استراتيجية (2024 ـ 2020) بواسطة السودان مؤخراً لمكافحتها خير من ألا تنفذه من أصل، وقال: بالتأكيد إن غسل الأموال هي عمليات إجرامية يقوم من خلالها المجرمون إضفاء شرعية على المتحصلات الناتجة عن نشاطات إجرامية يخفون مصادرها لنشاطاتهم غير الشرعية خوفاً من مصادرتها بالطبع، متمثلة في المال غير الشرعي وغير مقصور على النقد، بل يشمل الأصول والممتلكات والموارد الاقتصادية، خاصة النادرة، بما فيها الآثار التاريخية.
خطر جسيم
وقال: رغم إنه معروف بمراحل غسل الأموال في الأنظمة القانونية والمتمثلة في الإيداع والتمويل والإدماج، وأي تركيبة من ذلك فإن جرائم غسل الأموال تشكل خطراً جسيماً على الجانب الاقتصادي والاجتماعي في أي دولة خصوصاً تلك التي تعاني من ضعف المعايير المتخذة في مكافحة هذه الجرائم، وأوضح أن عمليات غسل الأموال تضاعف في خلق فجوة اقتصادية واجتماعية بين أفراد المجتمع، وزيادة معدلات الفقر وانتشار اقتصاد الظل أو التستر التجاري، مما ينتج عنه تراجع النمو الاقتصادي، إضافة إلى ما تسببه من ارتفاع معدلات التضخم الذي ينتج عنه ارتفاع مستويات الأسعار، ويتجه غاسلو الأموال إلى بيع الأصول ذات المصادر غير المشروعة وغير المعلومة بأسعار أقل من سعرها الحقيقي، وهو ما يلحق الضرر بالمنافسة الشريفة ويؤثر سلباً في الأنشطة التجارية الأخرى، وذلك على المستوى الجزئي.
المعايير الدولية
وأوضح د. وائل تأخر الاستراتيجية الوطنية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب (2024 – 2020) في التنفيذ في وقت كانت البلد تحتاج بقوة إلى مكافحة هذه الجرائم، خاصة البترول والذهب خلال العام (2021 – 2020)، قائلاً: الآن تبقى من عمرها عامين تقريباً حيث يتوقع تفعيلها بالقوانين واللوائح السائدة حالياً، وتابع: إلى حين تطويرها لاحقاً إلى مستوى المعايير الدولية وتفعيلها عملياً للحد من هذه الجرائم حتى نهاية الفترة على أقل تقديراً حتى يكون للجنة دور متعاظم في دعم استقرار الاقتصاد الوطني وأسواقه التي تدهورت بشكل مريع خلال الأعوام الـ5 الماضية، ولفت: إذا اشترط تأجيل عمل القوانين الحالية إلى حين تطوير اللوائح فإن غسل الأموال سيستمر خاصة مع تفشي السوق الأسود للعملات الأجنبية التي في الغالب تهرب وتودع في الخارج.
الخرطوم: علي وقيع الله
صحيفة اليوم التالي