ما وراء عودة آخر رئيس وزراء للبشير من القاهرة إلى السودان
شغلت عودة محمد طاهر إيلا (آخر رئيس وزراء للبشير قبل سقوطه، ووالي ولايتي البحر الأحمر والجزيرة قبل ذلك) الأوساط السياسية في السودان خلال اليومين الماضيين، وسط تكهنات كثيرة حيال الدور المرتقب الذي يمكن أن يلعبه الرجل في ظل الأوضاع الراهنة. فالمسؤول السابق الذي كان قد أعلن قبل أسابيع على صفحته في “فيسبوك” أنه سيعود إلى السودان من مقر إقامته في القاهرة، بعد تأجيل تلك العودة في السابق، يأتي إلى شرق السودان بعد سنوات ثلاث من مغادرته إلى العاصمة المصرية عقب سقوط نظام عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019، وهي سنوات شهد فيها شرق السودان فتنة أهلية وموجات اقتتال قبائلي تورطت فيه اللجنة الأمنية للبحر الأحمر، وثمة اتهامات كثيرة تحوم حول دور غامض لمحمد طاهر إيلا من وراء الكواليس في تأجيج الصراع الأهلي بشرق السودان لإفشال الثورة، ضمن حراك “الثورة المضادة” هناك، وهي سياسات ولغت فيها أجندات خارجية إلى جانب دور اللجنة الأمنية، لا سيما أن الرجل ينتمي إلى مكون البجا (شرق السودان).
جاء محمد طاهر إيلا لمنصب والي ولاية البحر الأحمر في عام 2005 ضمن صفقة بعد مجزرة “ساحة الشهداء” بالقرب من حي “ديم عرب” في 29 يناير (كانون الثاني) 2005 وهي مجزرة قتلت فيها حكومة “المؤتمر الوطني” في البحر الأحمر 25 شخصاً من مناصري “مؤتمر البجا” في مدينة بورتسودان.
توقيت متفق عليه
من المؤكد أن مجيء إيلا في هذا التوقيت تحديداً ليس صدفة، وهو لا شك أمر له علاقة بقادة الانقلاب في الخرطوم، كما له علاقة بجهة إقليمية في المنطقة. ومن المرجح جداً أن الرجل ربما يكون قد جاء ضمن تسوية محتملة يراد تمريرها لكنها لم تنضج بعد. ولتأكيد ملامح تلك التسوية، علينا أن نذكر بعض الوقائع والأحداث التي سبقت مجيئه، التي ستحدث بعد ذلك.
في هذا الصدد، نرى أن هناك تسوية إقليمية محتملة تهدف لإعادة جزء من رموز حزب “المؤتمر الوطني” (الحاكم أيام البشير) عبر التحالف بين الجيش ومزيج مدني آخر، لا سيما من الذين يتمتعون بشعبية في أوساط عامة الناس، من رموز قادة حزب “المؤتمر الوطني” السابق- مثل محمد طاهر إيلا- الذي حصد شعبية كبيرة أثناء ولايته للبحر الأحمر والجزيرة قبل أن يتم تنصيبه رئيساً للوزراء قبيل سقوط البشير بشهر.
ويفسر ذلك عجز السلطة الانقلابية اليوم في الخرطوم- بعد مرور سنة على الانقلاب- عن تنصيب رئيس جديد للوزراء. وبدا واضحاً أن ذلك سببه إدراك قائد الانقلاب عبدالفتاح البرهان أن المجتمع الدولي وضع خطاً أحمر أمام أي حكومة غير مشكلة من قوى مدنية ديمقراطية.
لكن مع عدم اتحاد قوى الثورة، حتى الآن، خلف برنامج موحد لإسقاط الانقلاب وفي غياب تحالف جديد لقوى الثورة فإن عودة إيلا عبر هذه الحملة الإعلامية الضخمة تعكس مؤشرات ربما تحيل إلى تغير ما، قد يسمح ببوادر فرصة لجهات إقليمية في سعيها لتسويق تسوية يكون فيها إرضاء لأطراف عدة من ضمنها، دمج أفراد ذوي شعبية من رموز “المؤتمر الوطني” السابق في أي حكومة قادمة عبر ضوء أخضر من جهة إقليمية قد تضمن استقراراً.
وفي ظل هذا التقدير يمكننا تفسير الوقائع الأخرى مثل طلب البرهان أثناء وجوده بنيويورك، من رئاسة الاتحاد الأفريقي فك تجميد عضوية السودان في الاتحاد المجمدة على خلفية الانقلاب، وتوقفه في القاهرة خلال عودته من نيويورك إلى الخرطوم، في نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي، إلى جانب محاولات تجري لإعادة انتخاب السودان بعد انقلاب 25 أكتوبر عضواً في مجلس حقوق الإنسان الدولي بجنيف في دورته المقبلة التي ستعقد في أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، إضافة إلى الملتقى المرتقب لقوى الثورة السودانية في الدوحة بعد يومين، الذي تنظمه دولة قطر عبر مركز دراسات “النزاعات والعون الإنساني” التابع لـ”مركز الدوحة للدراسات العليا”.
هل ثمة تسوية؟
كل هذه الوقائع تدل على أن هناك طبخة تسوية تجري في الكواليس وقد تصلح كبالون اختبار يترقب المجتمع الدولي مآلاته بحذر، الأمر الذي انتبهت له قوى الثورة السودانية وبخاصة بعد الزخم الذي شهدته عودة إيلا، ما دفع “حزب الأمة” إلى دعوة قادة أحزاب “قوى الحرية والتغيير” (المجلس المركزي) إلى اجتماع طارئ بداره حرصاً على تدبر وسائل سريعة وناجعة لقطع الطريق على “قوى الردة” التي يخطط لها “المؤتمر الوطني” عبر عودة جديدة لرموزه.
وأسفر اجتماع قادة أحزاب “قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي” في دار “حزب الأمة” عن الشروع في الترتيب والإعداد لتكوين تنظيم ثوري جديد، تحت اسم “الكتلة المدنية الديمقراطية الموحدة” بهدف التنسيق بين قوى الثورة والأحزاب الموقعة والكيانات المشاركة في صياغة مشروع الدستور الانتقالي المطروح من قبل اللجنة التسييرية لنقابة المحامين، وذلك بعد الفراغ من صياغة إعلان سياسي تعكف على كتابته “قوى الحرية والتغيير”، وهو في مرحلة الصياغة النهائية ويتوقع الفراغ منه نهاية الأسبوع الحالي، وذلك تزامناً مع تدشين توقيع الميثاق الموحد للجان المقاومة من قرابة 50 تنسيقية تتبع للجان المقاومة من كل ولايات السودان، الأربعاء 5 أكتوبر الحالي.
هذا الزخم الذي سرع تحريك الساحة السياسية السودانية اليوم تعبيراً عن صراع الإرادات بين قوى الثورة والثورة المضادة، أخذ بعودة محمد طاهر إيلا طابع الإحساس بالاستفزاز الشديد لقوى الثورة، فرئيس الوزراء الأخير في عهد البشير متهم بقضايا فساد منذ عهد الإنقاذ البائد، وبلغت تجاوزاته المالية وديونه خمسة تريليونات جنيه، بحسب مفوضية مكافحة الفساد، في نظام البشير. وهو متهم بعدد من القضايا المتعلقة بالاستيلاء على أموال عامة، إبان توليه منصبه كوال في ولايتي البحر الأحمر والجزيرة.
هذا فضلاً عن ممارسات مشينة تتصل بهضم حقوق مواطنين سودانيين مارس إيلا ضدهم سوء استغلال لمنصبه الرئاسي من أجل تصفية حسابات قائمة على تغليب الولاء الإثني لمجموعته البجاوية “البداويت” على حساب مجموعة بجاوية أخرى، هم بنو عامر والحباب (سكان منطقة جنوب طوكر)، إذ مارس محمد طاهر إيلا إبان ولايته والياً لولاية البحر الأحمر منذ عام 2005 ممارسات ضارة بحق هذه المجموعة البجاوية، وهي ممارسات عكست في يوم من الأيام حساً وطنياً ولا ضميراً أخلاقياً، حيث عمل إيلا على إفقار منطقة جنوب طوكر وإهمالها وتركها لمصير من أسوأ مصائر المناطق محرومة في السودان.
فمنطقة جنوب طوكر التي تضم مدينة عقيق وتمتد حتى مدينة قرورة المتاخمة للحدود الإريترية، ظلت منذ أن شهدت حرباً بين المعارضة السودانية وحكومة نظام البشير في عام 1997، منطقة مهملة وتم تهجير 60 ألفاً من سكانها بسبب الحرب، كما تم زرع ألغام منتشرة في مناطق عدة منها، إلى جانب وضع المنطقة تحت قانون طوارئ يمنع دخول المواطنين إليها. وظلت هذه الحال منذ ما بعد انتهاء حرب عام 1997، ولما أصبح محمد طاهر إيلا والياً لولاية البحر الأحمر في عام 2005 ترك الأوضاع في منطقة جنوب طوكر بحال أسوأ مما كانت عليه، بل منع عن هذه المنطقة حتى وصول سيارة إسعاف واحدة.
وحتى بعد الوصول إلى اتفاقية أسمرا للسلام بين نظام البشير السابق وجبهة الشرق التي أنهت الحرب في شرق السودان في عام 2006، أصر الوالي إيلا آنذاك، على تحييد منطقة جنوب طوكر وتركها لمصيرها المظلم، فلم يقم بحملات حكومية لنزع الألغام التي ظلت تفتك بمن بقي من المواطنين الأبرياء هناك، كما لم يقم بإعادة توطين المواطنين المتضررين من الحرب من أهالي منطقة جنوب طوكر – وهم كانوا قد فروا منها أثناء الحرب في عام 1997- فيما أبقى إيلا المنطقة تحت حظر الحركة وعدم إدخال أي مواد تموينية إليها بحجة قانون الطوارئ، حتى بعد انتهاء الحرب بأكثر من 10 سنوات، بل ظلت منطقة جنوب طوكر تحت هذه الأوضاع المأساوية المزرية والقاسية حتى بعد قيام الثورة في عام 2019 الأمر الذي يكشف مدى الضرر الذي ألحقه هذا الشخص بمصير أرض سودانية عزيزة، كشفت كراهيته لأهلها عن ممارسات عنصرية بحقهم، على نحو لا يمكن أن يعبر عن شخصية وال ينبغي أن يكون عادلاً بين جميع مواطني ولايته.
لقد ظل محمد طاهر إيلا (على الرغم من الشعبية التي حفظها له عامة مواطني مدينة بورتسودان) من أهم مهندسي نظام تسييس القبائل الذي كان هو الوصفة القاتلة لضرب النسيج الاجتماعي وأصبح يتدخل في تولية بعض وكلاء القبائل ويستبدلهم بآخرين، كما استحدث بعض النظارات والعموديات، وكل ذلك في إطار إفساد النسيج الاجتماعي وضرب القبائل بعضها ببعض، وهو ما بدا واضحاً في إحكام قبضته على التحكم بالسلطة وقمع كل من يعترض طريقه، حيث كان أحياناً يقوم بتعيين معتمدين عديمي الكفاءة والتعليم والخبرة، لا يملكون سوى معرفة صناعة الفوضى والمشكلات.
خلفية الاستقطاب السياسي والقبلي
اليوم، يأتي محمد طاهر إيلا في ظل استقطاب شديد يشهده شرق السودان وعلى خلفية احتقان كبير بين بعض قبائله نتيجة الاقتتال القبلي الذي دبرته اللجنة الأمنية فيما يتهمه البعض بأنه كان من مخططي الفتنة وصانعيها، عن بعد. وهذا الاتهام يصل عند كثيرين من أبناء مكون بني عامر والحباب إلى درجة كبيرة من التصديق، لكن الأمر الواضح اليوم هو أن عودة إيلا، في ما تعكس ملامح تسوية يجري إعدادها بالتعاون مع جهة إقليمية (من خارج الرباعية)، إلا أنها من زاوية أخرى، تعطي إشارة واضحة على فشل جهود ما سمي “المجلس الأعلى لنظارات البجا” الذي انقسم إلى قسمين، وكان واضحاً أنه جسم معطوب نظراً إلى تعاطيه السياسة من منظور قبائلي خطر نتج عن تهتك النسيج الاجتماعي بين بعض قبائل شرق السودان، وأضر بالسياسة والقبيلة في وقت واحد، لكن في الوقت ذاته، نتصور أن مشروع إيلا الجديد سيكون مصيره الفشل هذه المرة، لسببين، أولاً أن الرجل بمثابة “كرت محروق” لأنه كان آخر رئيس وزراء للبشير ولا يمكن للمناخ الثوري في السودان، أن يقبل بعودة إيلا رئيساً للوزراء مثلاً، كما ينادي البعض مثل الناظر ترك، لأن ذلك بمثابة استفزاز كبير للثورة ورموزها وشهدائها، والسبب الثاني هو أن إيلا يتحرك في وسط قبائلي لا يمكنه القيام بمتطلبات حاضنة سياسية واعية، بالنظر إلى الفشل الذي منيت به تجربة “المجلس الأعلى لنظارات البجا”.
وفي الخطاب الذي ألقاه بمدينة سنكات (شرق السودان) باللغة العربية وباللغة التبداوية، تكلم إيلا بمعنيين مختلفين، ففي كلامه بلغة البداويت أسمع أتباعه اللهجة التي يريدون سماعها وهي التهديد بفصل شرق السودان وتقرير المصير، في حال رفض الانقلابيين منحه المنصب الذي يريده له هؤلاء الأتباع، فيما كان خطابه باللغة العربية خطاباً تصالحياً دعا فيه إلى الوحدة والتسامح والمصالحة بين المكونات.
بيد أن الأرجح في تقديرنا أن المسؤول السابق العائد لا يمكنه إلا أن يكون خادماً لأجندة ما، فإيلا الذي أصبح والياً للبحر الأحمر وفق تسوية جاءت به إثر مجزرة راح ضحيتها 25 من أبناء البجا، ربما يتخذ من لهجة انفصال شرق السودان مشروعاً في خدمة أجندات أخرى أبعد ما تكون عن مصلحة البجا الذين تدل كل المعطيات الموضوعية اليوم أنهم إذا ما اتخذوا قراراً أحادياً بتقرير المصير والانفصال، كما يهددون، أو حتى لو تم منحهم المركز الانفصال طوعاً، فسيكون وضعهم، وفق تلك المعطيات، من أسوأ ما تكون عليه حال أي كيان ينفصل من دون أن يكون مؤهلاً بحد أدنى من مقومات وشروط الانفصال، ولوهلة علينا أن نتخيل كيف سيكون مصير الشرق إذا ما تم منح “المجلس الأعلى لنظارات البجا” حق تقرير المصير قبل عامين، بعد الحال التي آل إليها أمره اليوم من انقسام وشقاق وتخوين وتحزب قبائلي.
وكما فشل مشروع المجلس الأعلى لنظارات البجا في تجربة العمل السياسي (وفشل من قبله حزب مؤتمر البجا الذي انقسم إلى 6 أحزاب) فإن المشروع السياسوي الكسيح لمحمد طاهر إيلا سيمنى بالفشل، لا سيما إذا ما التقطت قوى الثورة خطر رسالة عودة “الإخوان المسلمين” عبر أجندة إقليمية، وقامت بتوحيد وتجديد حراكها ونضالها النشط والموحد في هذا الشهر، شهر أكتوبر الأخضر، الذي شهد أول ثورة سودانية في المنطقة.
مفارقات مشهد عودة إيلا
كان الحشد الذي نظمه وموله حزب “المؤتمر الوطني” لاستقبال إيلا بمطار مدينة بورتسودان دالاً على إرادة قوية لإخراجه بصورة مشهدية مؤثرة، لكن مما يؤسف له أن مدينة بورتسودان ومجتمعها الذي ورث نمطاً إشكالياً من العزلة ظل كامناً في طبيعة انغلاق المجموعة السكانية الأصلية حول نفسها بالسكن في حي خاص ومغلق من أحياء المدينة، انعكس على هوية وطبيعة بقية مكونات المدينة الأخرى من السودانيين، إلى جانب الطبيعة القبائلية الغالبة على علاقات المكونات القبلية هناك، وهي علاقات ضاعف نظام تسييس الإدارة الأهلية على يد “الإخوان المسلمين” لـ30 سنة من تعقيدها وتفاقمها، لذلك وفق طبيعة هذا الوعي القبائلي الحاد، يمتلك عامة البجا استعداداً مختلفاً لوعي تقليدي مفكك، لكنه لا يفك الارتباط بين فهمهم للفرد من حيث كونه منتمياً لقبيلتهم وكونه شخصاً فاسداً سياسياً، بحيث لن تؤاخذه قبيلته بجريرة فساد أفعاله السياسية ما دام هو فرداً منها، ورمز سياسي للقبيلة يتعين على نظام القرابة والعصبية فيها أن يناصره ظالماً كان أو مظلوماً.
وهذا الاستعداد هو الذي سمح بإعادة تعويم موسى محمد أحمد (رئيس حزب مؤتمر البجا، وصاحب فكرة تأسيس مجلس نظارات البجا) ليكون في منصب الأمين العام للمجلس، هو الذي كان في منصب مساعد الرئيس البشير حتى يوم سقوطه في 11 أبريل 2019. وهذا هو الذي حدث مع محمد طاهر إيلا حين عاد وتم استقباله في المطار بموكب عظيم، ويمكن القول إن هيمنة تلك العلاقات الأولية لنظام العصبية والقرابة وسطوتها هي التي جعلت من رد فعل لجان المقاومة في مدينة بورتسودان على ذلك النحو الباهت، فقد كان في وسع هذه اللجان أن تقود تظاهرات سلمية حاشدة ربما تلعب دوراً كبيراً في إرسال رسائل كثيرة ومهمة للمركز والخارج، لكن ذلك لم يحدث للأسف، فضلاً عما شهدنا من عينة لذلك الوعي القبائلي المفكك في نموذج استقبال قيادات قبائلية أهلية كان أبناء قبائلها هم المتضرر الأكبر من آثار فتنة الاقتتال الأهلي، لا سيما من القتل والتشريد والتهجير، ومع ذلك نرى لبعض تلك القبائل لافتات ترحب بشخص لا يشك أبناؤها أنه كان متورطاً، بصورة أو بأخرى، في تأجيج نيران الفتنة والاقتتال الأهلي بشرق السودان.
محمد جميل احمد
إندبندنت عربية