أحسب أن جيلنا كان أسعد حظاً من جيل الشباب الذي فتح عينه على الدنيا ليجد كل شيء من حوله في حالة تفكك أو انهيار أو على حافة “المزلقان”. جيلنا شهد أشياء مبهجة: ثورة الجزائر وانتصاراتها.. ثورة اليمن وانتصارها، وحرب السويس.. وبسالة التوانسة ضد الاستعمار في بنزرت، وكانت هناك إذاعة صوت العرب التي كانت تؤكد لنا أن العتبة قزاز والسلم نيلو في نايلو، بمعنى أن كل شيء يسير حسب الخطة و “إن غداً لناظره قريب”، ولم يكن هناك فيديو كليب ولا ميشو ولا شوشو، وكان المذيعون والمغنون ذوي انتماءات واضحة، فتستطيع أن تعرف أن هذا رجل وأن تلك امرأة دون الاستعانة بـ “صديق”، وحتى بعد أن لطمتنا هزيمة يونيو 1967 كنا نستبشر خيراً بانتصارات شعب فيتنام وشعوب أنجولا وموزمبيق وكمبوديا وانتصار إرادات شعوب رفضت الهيمنة الأمريكية. وكانت المخترعات الحديثة تدخل البهجة في نفوسنا وتحدث تغييراً “إيجابياً” في أساليب حياتنا، ومن ثم كان لها طعم خاص، فقد كنا نهزم الظلام بمصابيح الكاز أو الجاز أو الكيروسين، ثم جاءت الكهرباء وجعلت لمسة خفيفة على زر صغير المصباح ذاك في خبر كان، ثم انتقلنا من عصر وعاء الماء الفخاري إلى عصر الثلاجة، ولم تعد بنا حاجة إلى تناول وجبة شائطة وذات رائحة “خايسة” ومنفرة في العشاء هي بقية ما تناولناه بالنهار، وقبلها كنا قد اكتشفنا الثلج وصرنا نشتريه بالكيلو والقطعة ونلفه في قطع من الخيش كي لا يذوب بسرعة، ثم انتهى عصر الحمير والجمال وصرنا نسافر بالشاحنات التي تسمى الواحدة منها “اللوري”، وهي كلمة إنجليزية تطلق على جميع أنواع الشاحنات، وفي بادئ الأمر كان البشر يجلسون في اللوري فوق البضائع، ولكن سرعان ما ظهرت لواري مزودة بمقاعد تسبب البواسير، ولكنها كانت في ذلك الزمان تمثل طفرة طبقية لشعوب بأكملها في المنطقة العربية (هل سمعت طرفة السباق بين الحمير والخيل لدى الجماعة المشهورين بالغباء؟ هل تعرف لماذا فازت الحمير بالسباق؟ لأنها كانت تلعب على أرضها وبين جمهورها!!)، ثم عرفنا الحافلات المكندشة، وحضرنا عصر الطائرات النفاثة. وفي كل قرية وبلدة لم يكن هناك أكثر من شخص واحد يملك جهاز راديو.. وكان الناس يجلسون في أدب وصمت أمام الراديو لأنهم كانوا يعرفون أن “الحكومة” تتكلم من خلاله، وكانت الحكومة كائناً خرافياً نسمع به ولا نراه. هي في حالها ونحن في حالنا.. لا شرطة ولا توقيعات ولا أختام.. العمدة هو ممثل الحكومة وهو منا وفينا ونستطيع أن نرفع صوتنا عليه ونخالف كلامه إذا كان به شطط، فتبدأ الوساطات لتسوية المسائل. وكانت أكبر طفرة عرفتها موائدنا هي اكتشافنا للكستر (الكسترد)، وكان ذلك أول عهدنا بتحلية الفم بعد وجبة الغداء، وكنا نخلط الكسترد بالرز كي تطول متعة أكله بازدياد كميته. وكانت تلك بداية نكبة غذائية إذ سرعان ما ظهر الجيلي والكريم كراميل والمكرونة بالباشميل وتصدرت الحلويات الاصطناعية الموائد!! وبالمقابل فإن جيل الشباب وجد كل شيء جاهزاً وفقد القدرة على الدهشة والفرح بالجديد، حتى الطباعة في أيامنا كانت تتطلب مهارة فائقة كي يخرج النص صحيحاً ودقيقاً ومن ثم فإن الضاربين على الآلة الكاتبة كانوا بالضرورة يجيدون اللغات التي يطبعون نصوصها. أما اليوم فإن الكمبيوتر يتولى دور المصحح، وياما ورط الكمبيوتر الكثيرين في أخطاء إملائية ولغوية بشعة لأنهم صدقوه والتزموا بالتصحيحات التي أوردها مع أنه كثيراً ما يمارس التخبيص والهذيان خاصة في النصوص العربية. (حاول ان تكتب كلمة “لو” في رسالة على هاتف آيفون، وسيقوم المصحح الآلي بتحويلها الى “أو”، فهل يعرف ذلك الهاتف ان لو تفتح عمل الشيطان؟) وسبحان الله فما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي عبر الهواتف والكمبيوتر هدمت وهزمت التواصل في واقع الأمر، فقد صار كثيرون “يستخسرون” حتى تبادل الرسائل النصية المجانية عبر تلك الأجهزة، ويكتفون بإرسال رسومات من قائمة ما يعرف ب”إيموجي”: وجه زعلان، أو وردة أو الإصبع الإبهام مرفوعا إلى أعلى، أو يدان تصفقان، وهكذا وبعد ان كنا نغني “الأرض ب تتكلم عربي”، صارت الأرض “تتبكم”
صحيفة الشروق