يعتصرني الألم عندما أتذكر انني قضيت معظم سنوات عمري خارج السودان، بينما سُرَّتي (وليس صرتي) مدفونة في بحري وقلبي معلق بين بدين وكوستي، وفي العشرية الأولى للاغتراب كان حلم حياتي أن أعد ولدي البكر غسان ليدخل جامعة الخرطوم، وقررت لذلك ان أعود الى الوطن فور وصوله الى أعتاب المرحلة الثانوية، فلما وصل تلك المرحلة كان السودان قد بدأ مشوار العودة الى عصر الظلمات والمظالم حتى بلغ اليوم القاع في ظل حكم البراهنة والدقالوة والأراذل
وفي سياق خطتي للعودة بغسان الى السودان ليكمل المرحلة الثانوية كنت حريصا على ربطه بالوطن خلال سنوات إقامتنا في ابوظبي، وهكذا وعمره نحو ثلاث سنوات أخذته ذات مساء في جولة في حي الباور هاوس الذي كان ما بين شارعي الجوازات والدفاع في ابوظبي باعتبار ان الحي شعبي وقريب الشبه بأحياء المدن السودانية مع وجود الكلاب والأغنام في شوارعه، وفجأة نهق حمار فأطلق صاحبنا صرخة تحنن قلب الكافر وصار يرتعد، وهدأت من روعه وتوجهت به الى حيث كان الحمار وما أن رآه على البعد حتى انطلق كعداء أولمبي وهو يصيح: بابا أجري (لم يكن المسكين يدري ان والده كان يحس بالفخر لأنه امتلك حمارا وهو في الصف الثالث في المرحلة الابتدائية)، وذات مساء آخر ونحو في جولة تعريفية في نفس ذلك الحي أحسست به وقد تجمد فجأة وجسمه يهتز بقوة ويغطي وجهه بطرف جلابيتي، وبعد إلحاح مني عن سبب خوفه رفع يدا مرتجفة نحو السماء مشيرا الى القمر الذي رآه لأول مرة، وعند ذهابنا الى السودان اصطحبته الى كوستي وفي بيت أخي عابدين اكتشف غسان قفصا للدجاج، وجلس أمام القفص من حوالي السابعة مساء حتى العاشرة وهو يهش الدجاج ويمنعه من النوم والهجوع، ومنذ يومها ذاك “قطعت” الدجاجات ولم تضع أي منها بيضا، فاضطر عابدين الى ذبحها بالجملة وانتهت بذلك تجربته مع تربية الدجاج
وعمره نحو خمس سنوات ذهب غسان مع أمه في إجازة الى السودان وبعد عودته من هناك صار لأول مرة يقول: أبوي وديني الدكان او أديني قروش انا ماشي الدكان، وفي تجارب معظم المغتربين فإن عيالهم لا يعرفون عادة حكاية “ماشي الدكان”، بل يطلب الواحد منهم ما يريد من والديه، وصار كلما اصطحبته الى الدكان يصر على ان يتولى هو دفع قيمة ما يشتري، وانتبهت الى أنه صار فجأة يجيد الجمع والطرح، وان ذلك يعود الى أنه درج خلال وجوده في السودان على الذهاب الى الدكان، وان ذلك علمه كم يدفع وكم “الباقي” الذي ينبغي على التاجر ان يعيده اليه
في مدحة السراي “جافوا النوم عقدوا الرأي”، بيت يقول: جاي من بغداد في كل بلد سوا له ولاد”، وهكذا كان حالي فولدي غسان مولود في السودان وتليه عبير في مصر ثم مروة في ابوظبي ثم لؤي في قطر، وأكثرهم سودانية هما غسان وعبير وأذكر سنة ذهبت فيها المدام بالعيال الى السودان وكان موسم الأمطار ولا كهرباء لعدة أيام متتالية، وذات اتصال هاتفي قالت لي مروة باكية: بابا تعال سوقني، عندي أضان (أُذن) بقت أكبر من التانية، واتضح انها تعرضت لعضة من حشرة خريفية سببت ورما وخللا في حجم أذنها
وملف فضائح عيالي كبير ولكن ربنا أمر بالستر
جعفر عباس