-١-
كثيرون ربما تفاجأوا بالاستقبال الحاشد الذي وجده السيد محمد طاهر أيلا وهو يعود إلى أرض الوطن بعد غياب قارب الأربع سنوات.
سأحاول بقدر المُمكن والمُتاح شرح وتفسير ذلك، بحكم مُتابعتي الصحفية لتجربة الرجل في حكم ولايتي الشرق والجزيرة وبعض شهوره في مجلس الوزراء.
النموذج الذي قدّمه أيلا هو نموذج السِّياسي المُضاد لثقافة النادي السِّياسي التي أنتجها مؤتمر الخريجين وجمعيّات أبوروف والهاشماب.
كانت السِّياسة وما زالت هي فن مُخاطبة الجماهير والمقدرة على الاستثمار في أمانيهم وأحلامهم واستثارة عواطفهم وتهييج مشاعرهم وممالقة مُقدّساتهم لكسب ولائهم.
كانوا في الماضي يتسابقون على أبواب السيدين في بحري وأم درمان(السيد علي والسيد عبدالرحمن)، واليوم يشدون رِحالهم، ويعزفون ألحانهم على سلالم الانتهازية ما بين كدباس وأم ضواً بان (الجعلي والجد).
-٢-
يندر أن تجدَ بينهم سياسيّاً له مقدرة على إنتاج أفكار نيِّرة ومشرقة، تُسهم في حل المُشكلات والأزمات.
جميعهم بارعون في الكيد لبعضهم البعض، يسقط هذا ويصعد ذاك!
بارعون في الهدم ونسج الأوهام، وعاجزون عن صناعة النجاح المنظور بالعين المُجرّدة، والمحسوب بالأرقام.
في فترة حكمه للولايتين، أيلا لم يستحدث موارد جديدة، كل ما فعله أنه أوقف الصرف السياسي العبثي ورشد الصرف الحكومي إلى حد الكفاف، وأغلق مواسير الفساد وتوسّع في تقديم الخدمات فنال رضى الجماهير وسخط رموز الفشل والخيبات.
قلتها من قبل وأعيدها اليوم:
أيلا ليس ساحراً، ولا بهلواناً سياسياً، ولا وليّاً صُوفياً تجري على يديه الكرامات؛ بل هو سياسيٌّ صاحب رؤية تُمازج بين أرقام الاقتصاد والمُعادلات الاجتماعية، بارعٌ في الحفاظ على الموارد وإدارة صرفها في ما يفيد الناس، لا على أصحاب المصالح من كباتن السِّياسة.
-٣-
السِّياسة في قاموس أيلا هي معايش الناس، لا (طق الحنك) وتجارة الأوهام. السِّياسة هي ما هو متحققٌ في الواقع وواضحٌ للعيان، لا ما هو مُعلّقٌ على سين (التسويف) بالوعود الزائفة!
احتفاء المُواطنين بنمُوذج أيلا درسٌ مفيدٌ لكل السِّياسيين، من حاكمين ومُعارضين، فها هو المُواطن يُحدِّد بصورة قاطعة وواضحة نموذج السِّياسي الذي يُريد.
من بين كل المسؤولين في عهد الإنقاذِ، لم يُحقِّقْ مسؤولٌ شعبيةً واسعةً مثل محمَّد طاهر أيلا في الشرق والجزيرة وأحمد هارون في كردفان الكبرى .
ما وجده أيلا في الشرق من تأييدٍ لم يكن مترتّباً على انحياز قبلي، فقد حقّق أكثر منه في ولاية الجزيرة.
لم يسلم أيلا من استهدافِ بعض إخوانه في التنظيم الحاكم.
خابت كلُّ محاولات ضرب رمزيته بالاتّهامات والشّائعات.
فقد كان يجدُ الدَّعمَ والحمايةَ من جماهير الولاية التي يحكمُها ويرصفُ طرقاتها ويهتمُّ بمستشفياتها ومدارسها ويزيِّنها بالنظافة.
يبتدعُ مشاريعَ لدعم الشرائح الضعيفة وترقيةِ وسائل كسب الرزق للمُعاقين وأصحابِ المهن الهامشيّة.
جعلَ للنظافة قيمةً، وللعمل قداسةً، وللوقت ثمناً، وللكلمة معنىً.
-٤-
لم يكن يُكثر من المُخاطباتِ الجماهيريةِ ولا المُقابلاتِ الإعلامية.
حارب الفسادَ بكل صلابةٍ وفكَّك المؤسسات التنظيمية الوهمية ورفضَ دعم مشاريع (الهجرة إلى الله) من مال الدولة.
التأييد الذي ناله أيلا بولاية الجزيرة وفي الشرقِ، فوق الاحتفاءِ بما أنجز، كان رسالةَ رفضٍ للمجموعات السُّلطوية التي كانت تتصارعَ على الامتيازات طوال سنوات حكم الإنقاذ.
فلم ترصفْ شارعاً ولم تضيئْ طريقاً ولم توقدْ شمعة أمل.
كانت سياسةُ محمد طاهر أيلا التقرُّب للمواطن بالخدمات لا الشعارات، والتعامل معه بصورةٍ مُباشرةٍ، مع رفع لافتة: الوسطاء يمتنعون.
-٥-
كانت ميزانياتُ ولاية الجزيرة قبل أيلا، لا تنفقُ على الخدمات والتنمية، بل تذهبُ إلى جيوبِ قلةٍ مُتنعِّمةٍ بالامتيازات والحوافز.
مع أيلا لم يعدْ في الجزيرة متفرغون لمهام وهمية يركبون الفارهات على حساب المواطن البسيط.
لم تعد في الجزيرة كشوفاتُ مرتباتٍ للموتى تُدفع من عرق الكادحين.
-٦-
التأييد الذي وجده محمد طاهر أيلا في الجزيرة، كان بمثابة درسٍ مهمٍ لقيادة الدولة وقتذاك.
وهو أنّ المواطنَ لا يقفُ مع الشعارات ولا ينحازُ للولاءات الحزبية والجهوية؛ هو مع مَن يخدمه ويسعى لتحسين سُبُل حياته.
كانت الأماني مع نموذج أيلا، أن تنطوي صفحةُ السياسي صاحبِ الجلاليب البيضاء والعِمم والشالات المُطرَّزة والأحذية اللامعة والعبارات البرّاقة والعصي الأبنوسية، والحلاقيم الكبيرة والموائد العامرة.
-أخيراً-
محبة الجماهير وكسب تأييدهم في كل زمان ومكان يحققهما الفاعلون لا القوَّالون..!
الفاعلون أصحابُ الإنجازات الظاهرة، لا الوعود الزائفة من الذين يُحقِّقون نجاحاتِهم الخاصة على حساب الفشل العام، ويعضُّون على المناصب والمقاعد بالنواجذ حتى تتساقط الأسنان وتحترق الأحلام..!
ضياء الدين بلال