محمد محمد خير يكتب: نكْهة زمَان

لفتتْ نظري لافتةٌ معلقةٌ على مقهى لبيع عصير الفواكه، تحملُ هذا الاسم المشحون بالحنين للماضي، كأن طعم عصير الفواكه في ما مضى كان له المذاق العذب، والنّكهة الحارقة، والطعم المستعذب، وتدهور الآن إلى أن صار بلا طعم، مثله مثل كل البناء الهائل الذي تصدَّع وتهاوى وأزْورَّ.
دخلتُ المقهى ليس برغبة شرب العصير، فقد كنتُ مدفوعاً بالوقوف على ماضوية صاحب المقهى وحرصه على إحياء الماضي من خلال لافتته (نكهة زمان).
فأنا أيضاً مسكونٌ بالماضي، وعلى قناعةٍ تامّة بأنني عشتُ حياتي في ما مضى، وأعيش الآن على هامشٍ زمني ليس له مستقبل، فالمستقبل هو الماضي الذي كان، والماضي هو البؤرة النّقيَّة التي نلوذُ بها كلما زاد الحاضر قسوته.
دخلتُ المقهي الذي كان صاحبه يدير شريط كاسيت قديماً، يقفز منه صوتا الثنائي ميرغني المأمون وأحمد حسن جمعة: (المن نسمة يتمايل حاكا المنقسمة.. فريع البانة).
لا أدري لماذا سبقني البكاء المُر وأنا في تلك المهمة الاستقصائية التي تتطلب حضوراً ذهنياً عالياً وتركيزاً يستلزمه الاستقصاء. وجدتُ نفسي أعانقُ الرجل ودموعي تسيل على جلبابه، فرَّد التحية بدموعٍ أكثر سخونة سالتْ في الفضاء الذي يختبيء فيه الماضي، لوعتنا المشتركة ومهمازنا الذي يستحلب الدموع.
لم أسأله ولم استفسره عن نكهة زمان وسرّ اللافتة، لأن الذي سالَ بيننا صمتاً يسلب كلاً منَّا قدرة المضي في الحوار، فما سحيته من دمع أكد له أن بي نزيفاً من جراح الحاضر، وما قابلني به من دموع وثَّقت نوستالجيته.
هنا أطل عبقٌ جديدٌ، فالماضي فعلٌ موار. قلبَ الرجل الشريط فجاءنا صوت كرومة: (مِسّو نوركم شوفو المن جبينا صباح… والصباح إن لاح لا فايدة في المصباح). قلتُ في سرِّي: إن هذا الرجل يستهدفني بإهاجة جراحي واستثارة (شجاي) كأنه يعلم أن قلبي مدفونٌ في هذه اللُّحون، وأن جسدي يعيشُ زمناً إضافياً. لم يكن في المقهى أيُّ زبون، كنتُ أنا وهو يبيع لي نكهةَ الماضي الحارق الذي كنتُ أدفع ثمنه نواحاً وأسىً.
سألته عن سر تسميته لمقهاه. قال لي إنه يستثمر في الماضي، فقد كانت المذاقات تكتسب نكهتها من الزمن الجميل، حيث لا شيءَ نشاز، لذا اختار هذا الاسم كي يجذب الزبائن.
لم أخرج بأية إشارات فلسفية تكسب أسئلتي صلابة، فقد باغتتني إجابته التي تحمل الكثير من التوسل للماضي، باعتباره الزمن المشترك لكل الأجيال، وتكريسه على نحوٍ تجاري أي تحويل الماضي من ذاكرةٍ ندِيَّة لورقةٍ نقدية، باعتبار أن معظمنا يبحث عن مذاقٍ من الماضي. وأننا جميعنا نعيشُ في الماضي لدرجة أننا صرنا أسلاف أنفسنا.

صحيفة الانتباهة

Exit mobile version