الثائر كوامي نكروما، رائد التحرير وصانع الاستقلال، ومُجدِّد الفكر الأفريقي في أكثر أوقات الاستعمار عنفواناً
الفنون كانت مصدر إيحاء ودافع للتأمُّل في شأن السياسة قبل أن تأخذنا السنون إلى التفكير بتمعن في السياسات
مهرجانات البقعة الدولية العشرين عرفت صانعي المسرح الأفريقي والعالم بتجارب مغايرة وجديدة.. ووسّعت دوائر التعاون وبرامج العمل المُشترك
عُدت يا سادتي إلى غربها الأقصى أفريقيا إلى جمهورية (غانا)، نزلت مدينة (أكرا) وللمرة الأولى، وكنت في كل أحلام شبابي أتطلع إليها، عبر حكايات التحرر الأفريقية، وعمي جمال – كما نحب أن نقول – سعادة السفير، معالي الوزير الأستاذ جمال محمد أحمد، يجلس في كرسيه تلك الصباحات البهيجة أمام مكتبه الأنيق في مبنى المجلس القومي للثقافة والفنون، يضئ غربها الخرطوم، قبل أن تزدحم بدواوين الحكومة، كانت المنازل لأهل الخرطوم القدامى، تميزها العمارة المتقنة، والألوان المتناسقة. والنظافة بلا حفر تغطي الشوارع النظيفة، والحدائق فيها ترمي زهور (الجهنمية) الحمراء والبيضاء ما وراء الأسوار، وتحرسها مصلحة البساتين، وتحميها من التلف مصلحة وقاية النباتات. ومشتل الزهور يقف حارسا لبعضهما، يزودها في كل حين بالياسمين، ووردة حمراء، تجلي النظر الصباحي. كل ذاك كان غير بعيد من مكتب عمي جمال عليه الرحمة، السفير الوزير والكاتب البارع، نرد في الذي نكتب له الروح والاحياء، ولو نجحت الدولة وقتها في دعمها للثقافة والفنون، فإن أحسن وأصدق إشاراتها، هو تكليف عمي جمال أميناً عاماً، واختيار ذاك البيت القديم مقراً له، طراز (بريطاني)، مبنى عتيق يتوسط الحديقة خلفه، وفي الأمام جداول وأشجار، ما فيها من الثمرات، ولكنها تزينها الأزاهير، تتيح للمغردين من الطيور فرصاً ومساحات، البيت اختير بعناية مقراً لأول مؤسسة ثقافية وطنية، جالس كان معالي وزير الخارجية السابق والسفير الأسبق، والأمين العام للمجلس القومي للثقافة والفنون والآداب، جمال محمد أحمد، والزهور، نعم يفوح عطرها، ومع حديثه العابر لنا، يخصنا به، أو ينهي أمراً إدارياً، والزهور تضيع في زحمة الألوان، فلا تعرف هل هذا عطر الحروف في كلامه، أم إنك تقترب منه، الركن اليماني للمشتل القديم. كل ذاك كان في خاطري يوم دخلتها المدينة العزيزة (أكرا)، حدثني عنها الراحل جمال محمد أحمد الأب المؤسس للكثير من مراكز الثقافة والفكر السوداني المعاصر، هو الرئيس المؤسس لاتحاد الكُتّاب السودانيين (الميلاد الأول).. وقد زرت قبلها (ساحل العاج)، ثم (بوركينا فاسو) أكثر من مرة، وفي (اوقدوقو) جلسنا فيها نؤسس لهذا المشروع الفني والعلمي، (صور المسرح الأفريقي الجديدة)، والنظر إلى مستقبل فنون الأداء (المسرح)، بكل ذاك التنوع والتعدد في القارة الأم أفريقيا، الغنية بالفنون المعاصرة، وتلك التي تيسّرت بالتقاليد وفنون الشعوب.
ثم إنّ زيارتي هذه المرة للمدينة الحيّة بالناس مع الازدحام والانتظام، وبرنامجي فيها (أكرا) الجميلة، طويل، سبعة أيّام عمل، تنوّعت من المشاركة في حفل الافتتاح ومُخاطبته، ثم لقاءات رسمية وغيرها، التقيت بمعالي مفوض الثقافة السيدة (جانيت ادينا)، ومسؤولين آخرين في الدولة المستقرة بالانتخاب الحر المباشر، حزبين كبيرين، يعود واحد منهم في كل دورة انتخابية أو أكثر، ولا تزيد لواحد منهم، يحكم الدولة في مختلف مستويات الحكم، من عند رئيس الجمهورية إلى رئيس المحلية في القُرى البعيدة في مناحيها الكُبرى (غانا) العشق القديم المتجدد،
ثم كانت مُشاركتي في المائدة المستديرة (المسرح العالمي الراهن وأشواق التجديد)، بمشاركة مبدعين وصانعي مسرح من تونس ومالي وبوركينا فاسو وأمريكا وسويسرا وإيطاليا وغانا وساحل العاج ونيجيريا، قدمت في ورقتي صورا للتواريخ المفرحة للمسرح السوداني القديمة والتجارب المعاصرة، وعنها المؤسسات الحكومية، المسرح القومي. والقطاع الخاص المسرح الوطني، وهناك فرق. في الدهاليز القادمات نحكي حكايات التأسيس، خرجت منها البقعة المباركة، أرض المسرح الوطني المتسعة، ومنها انطلقت الفكرة في الربع الأول من ثمانينيات القرن الماضي، وفي إصرار لبناء المؤسسة الإبداعية المسرحية الخاصة. والمسرح الوطني الفكرة والمفاهيم المؤسسة، كتبت بشأن الإيضاح أكثر من ورقة، فيها من الشروحات ما تحدد المسافات بينه والمسرح القومي، والفروقات في الفكرة، لا في التعابير بينهما، وما تحقق بعدها لنجاعة الفكرة واتساعها عند مسرحنا الوطني، نعم، وتلك حكاية أخرى ضروري الوقوف عندها بتفصيل كلي، نعم.
ولعلها مشاركتي الأهم في أيام (أكرا) المزدحمة. نظمت ليومين في أكاديمية غانا للفنون والعلوم، ورشة عن (المسرح في مناطق النزاع) بمشاركة طلاب فنون الأداء، في (غانا) وفناني المسرح، جاءوا من البلدان الأفريقية الغربية، ولكن لم تبخل علينا (أوغندا) بالحضور، وسأحكي عنها وتفاصيل برنامجي للورشة، التي تعيدني لقاعات الدرس، وفنون العصر من جديد بحماسة أكبر. وانظر في النتائج الآن، منذ أن خرجت الفكرة من معسكر للأطفال والشباب العائدين، منها الجيوش والحركات المسلحة في جنوب الوطن وقتها. في مدينة (ملكال)، يومها سعيت لاستخدامه فنون الأداء بتنوعها وتعدد أشكالها لمعالجة الأطفال والشباب المتأثرين بالحرب والنزاعات، وتلك كانت فضاءات تستوعب الجميع، قتلة ومقتولين.
فرغت بحمده تعالى من كتابي (المسرح في مناطق النزاع – استخدامات الفنون الأدائية في تعزيز السلام) الآن بين التدقيق والمراجعة والتصاوير.
في جلسة المائدة المستديرة، قدمت ورقة قصيرة عن المسرح السوداني، وتجربة المسرح الوطني مسرح البقعة، والمهرجان الدولي للبقعة المباركة، وقد عرف بعض المشاركين السودان والمسرح عبر مشاركتهم في دورات مهرجان البقعة الدولي للمسرح، وفي لقاءات مع صناع المسرح السوداني في فضاءات إقليمية ودولية. والفنون الأفريقية عندي قبل عقود خمسة تزيد ولا تنقص إلا قليلاً، كانت مصدر إيحاء ودافع للتأمل في شأن السياسة قبل أن تأخذنا السنون إلى التفكير بتمعن في السياسات، وتلك ليست معضلة، أفرق تماما منذ سنوات بينهما، وأسعى بالقدر الممكن للحفاظ على تلك المسافة التي لا تباعد بيني وإحداهما، ففي ذلك أقل من عدم الصواب.
(أكرا) التي احتفت بي، ادركت محبتهم وتقديرهم لأدوار السودان السياسية وإسهام أهله في استكمال التحرر من الاستعمار السياسي والثقافي، ثم لمحته حيثما ذهبت، خاصة لقائي بمعالي مفوض الثقافة السيدة البروفيسور (جانيت ادينا)، عملت في المفوضية لسنوات، قالت إن نظام المفوضية لا يتداخل في اختصاصات الوزارة المعنية بالسياحة والمؤسسات الأخرى، ورتّبت لي زيارة للمسرح الوطني في أجمل مناطق العاصمة، تمشي إليه عبر شوارع فسيحة، غير بعيد من المتحف، أسسه الكاتب المسرحي (عبد الله محمد اكوشا) من رواد الفنون المسرحية في غرب أفريقيا، (وغانا) يومها بنت جسورها مع الصين، فبنوا المسرح الوطني، يسع ألف وأربعمائة متفرج، تصميم مريح، تتقدم قاعة العرض صالات فسيحة للمعارض والاحتفالات.
وانظر يومها، وفي إحدى زيارات الزعيم الكبير (كوامي نكروما) للصين حدث ما حدث. انقلاب، أطاح بتجربة ديمقراطية جيدة، نموذج كانت يومها، حكى الناس بعدها وفي حزن، كيف استقبل الزعيم الخبر، ولم يعُد، وكان بعيداً عنها ومات هناك، والمتحف أُقيم بعدها استذكاراً لسيرته العطرة وليسجل من تلك الروايات النجاح. ولم تنجُ بعدها (غانا) من الانقلابات إلا قليلاً، وتحكمها ديمقراطية الحزبين، حاكم ومعارض. وحلمي بها تجربة حكم غير بعيدة. ممكن في ذات الظهيرة زرت متحف القائد (كوامي نكروما) كان تحت أعمال الصيانة، تحيط بالمبنى التصاوير الكبيرة له، في أحلاها وأجملها بالزي التقليدي المعروف عنه، قال عمي جمال يكتب عنه ويسجل لحظات التأسيس لمنظمة الوحدة الأفريقية و(أديس أبابا) قبلة أنظار العالم، وإنهم وقادة أفريقيا يومها بين بين، بين الحرس القديم وفيهم الإمبراطور والرئيس (تمبان) من مؤسسي (ليبيريا) والفريق إبراهيم عبود، والثوار الشباب القادة الجدد فيهم عبد الناصر، ونكروما، قال عمي جمال دخل القاعة الكبرى في (أديس أبابا) يوم إعلان تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية، تحيط به فتيات الثورة، ينشدن أغنيات (الهرامبي افريكا)، كتب الأشعار وما وضع الألحان، وجلس بلباسه الأبيض التقليدي، والناس يومها متفقون على التحرر من الاستعمار وبناء الدول الأفريقية الجديدة. تلك كانت في خاطري تصاوير منها لحظات التاريخ المجيد، وأيامي فيها (أكرا) تنعّمت بها التواريخ والأغنيات والطبول والأشعار والناس القيافة. والتكريم في ليلة الختام بلباس الملوك والشهادات، احرص على انتقالها لديوان مهدي رغم كبر حجمها.
و(أكرا) فيها للسودان محبة، لمحتها من الاستقبال الحسن والطيب، والصديق السفير الجميل محمد عبد الرحمن يعيد لتلك العلاقات. التاريخية والأقدم بين الوطن وبلدان القرن الأفريقي، يبني فيها بإصرار، وقد تعثرت لفترة وتراجعت، وهو السفير العالم والباحث والمتداخل معها مجتمعات الفكر والأدب الأفريقي، أسعدني برعايته التامة الحبيب السفير محمد عبد الرحمن، معروف لديهم وبمحبة، حيثما زرت أياً من دواوين الدولة هنا، حديثهم عنه والوطن يرفع عمتي الخضراء افتخاراً، بل هي تطير فرحة بهذا التقدير لوطني الكبير، ويوم انشر ما كتبت عنها الخارجية وسفرائها وأدوارها، تطير أشجار اللبخ العتيقة في شارع النيل غير بعيد منها، نعم ذاك فخري وأسباب عزة الوطن، وتعظيم سلام
حفظهم الودود، وأطال في أعمارهم وأعمالهم وخدمتهم الراقية مع الجمال والعلم،
وفيها (أكرا) ومدن أفريقية أخرى على هذا الساحل، وغداً أعود إليها قبل الربع الأول من عامنا الجديد إن شاء الودود، ننظر في بناء وتحديث شبكة المعارف بين مؤسسات الثقافة والفنون الشعبية، والحرة والديمقراطية، كما نقول، والرسمية مع المرونة
(غانا) التي عشقتها حروف في اشعار محبي الثوار، وأغنيات وحكايات انتقال الإنسان الحر من كهوفها على الساحل الغربي، إلى إنسان بلا إشارة لكونه بشرا من هذه النقطة، وقد وقفت فيها، انظر وحزني بقدر البحر أمامي، ونظري يذهب للمدينة في الجانب الآخر من المحيط بلا حدود، إلى (سلفادور بهية) في (البرازيل)، ومنها الى الشمال. (أمريكا) وتلك الحكايات حكاية الرق والعبودية، لا تنقص من جمالها، أفريقيا وغانا الأفريقية.
دعواتكم، يوم تطالع الدهاليز أكون بين السماء والأرض في طريقي للبقعة المباركة، عبر القاهرة التي نحب ونعشق.
دعواتكم.
سلمتوا،،،
وصلوا على الحبيب المصطفى ذاتاً ووصفاً واسماً، الفاتح لما أغلق، الخاتم لما سبق.
صحيفة الصيحة