التحقت مترجما بأرامكو تاركا زوجتي وهي حامل في الشهور الأولى بولي العهد (طفلنا الأول)، وعند ما نزل الشبل على كوكب الأرض كانت أرامكو قد خصصت لي بيتا في ظهران هيلز فعجلت باستقدام المدام والشبل غسان، وأستطيع ان أقول ان ذلك كان بداية التعارف الحقيقي بيننا، فرغم أنني عرفت سعيدة الحظ قبل الاقتران بها بسنتين إلا ان التواصل بيننا كان خلالها على أضيق نطاق وفي معظمه عبر الهاتف (وبعلم أهلها)، وكان سفري الى الظهران بعد شهور قليلة من الزواج، بينما في مدينة الظهران “بقينا راس” كما نقول في السودان عند تلاقي شخصين بعيدا عن الآخرين
المفاجأة هي أنها كانت فاشلة بتقدير ممتاز في الطبخ، وماهرة فقط في صنع العصيدة، لأن كل ما تطبخه من رز ومكرونة ولحم مفروم وبامية وفاصوليا كان يتحول بقدرة قادر الى عصيدة، وكنت أفاجأ مثلا باتصال منها: جيب معاك رز!! فألبي طلبها وأنا محتار: جبت كيلو رز الأسبوع الفات أي ما يكفي اسرة من عشرة أشخاص تأكل الرز يوميا لمدة شهر. وما كان يساعدها على إخفاء جرائم الطبخ تلك هو ان حوض غسيل الأواني بالمطبخ كان مزودا بجهاز هرس: تفرغ فيه بقايا أي طعام فيتعرض للهرس والفرم ويجد طريقه الى شبكة المجاري، وخفف عليها الحرج من “خيبتها” في الطبخ ان من بين خصالي الحميدة القليلة أنني لا أطنطن أو أنقنق حول الأكل مطلقا
كانت أرامكو مستعمرة أمريكية، حيث كان الأمريكان يشغلون الوظائف العليا ويأتون ببني قومهم ومعظمهم عساكر سبق ان حاربوا في فيتنام ويمنحونهم رواتب مهولة، وكان من حق الأمريكي ان يأتي بصديقته لتقيم معه بالسنين، بينما فرضوا على غير الأمريكان استقدام زوجاتهم مرتين في السنة لمدة ثلاثة أشهر في كل مرة، وبنهاية فترة زيارة زوجتي وولدي فركشنا من أرامكو وعدت الى السودان وصرت مدرسا في مدرسة الكنيسة الأسقفية في ام درمان، وبدروها التحقت ام الجعافر بدورة طبخ مع أمها وتدربت على المفروك والمحمر والمقمر، (أحسب ان أمها كانت تقول في سرها: قادر الله، المحسي داير بتي تبقى ليهو طباخة)، وسبحان الله صارت ماهرة في الطبخ من الذاكرة وبالكتالوج، بدرجة انه لو وضعوا أمامي عشرين صحنا لعرفت أيهم من إعدادها، حتى لو كانت بقية الصحون من إعداد الطباخين ذوي الزعابيط الذين يعملون في الفنادق الكبيرة
عملت في تلك المدرسة لنحو ثلاثة أشهر فقط، عندما قابلني صديقي وزميلي في مدرسة وادي سيدنا الثانوية عثمان عوض حمور مصادفة في “بحري”، وما أن علم أنني تركت أرامكو حتى اقترح علي التوجه الى قطر حيث كان يعمل هو مديرا للتحقيقات الجنائية، وفوجئت بعدها بأسبوع بعثمان يأتيني بتأشيرة زيارة لقطر، وهكذا بدأ الفصل الثاني من تجربتي في الاغتراب، وعاد عثمان الى السودان قبل سنوات (ينتحل حاليا صفة صيدلاني بحكم ان بنته صيدلانية حقيقية) بينما ما زلت مغتربا قبل سنوات أكافح لتكوين نفسي
جعفر عباس