المؤشرات وقرائن الأحوال كلها كانت تؤكد في آواخر عهد التعددية الحزبية الثالثة ان الحكم بكافة مستوياته ومؤسساته التنفيذية والسياسية والتشريعية آيل للسقوط لا محالة وكانت اذاعة الحركة الشعبية تبث سمومها وأوهامها وتتوعد الحكومة والمواطنين في الشمال بهزائم ماحقة وكانت تمعن في الابتذال والتهريج السياسي والتضليل الاعلامي ببث اكاذيب وخزعبلات من نسج الخيال الشاطح الجامح .وكانت عدة احزاب وتنظيمات سياسية يسعى كل واحد منها ليسبق الآخرين ويقوم بإنقلاب عسكري مدعياً صدقاً او كذباً ان له خلايا في القوات المسلحة ومن بين تلك الأحزاب حزب البعث الذي خاض الانتخابات العامة في عام 1986م بعد أن ملأ الارض صخباً في العام الانتقالي وكان صوته عالياً في الدعاية الانتخابية وملأ الجدران بالشعارات المكتوبة بألوان صارخة وعند إعلان نتائج الانتخابات لم يفز في دائرة جغرافية واحدة في كل ارجاء القطر ولم يفز ايضاً بمقعد واحد في دوائر الخريجين وخلاصة القول إنه حصل على صفر في المائة في تلك الانتخابات ولم ينافس مرشحوه وجلهم كانوا في ذيل القائمة او فوق ذلك بقليل وهذا يعني انه ليس لهم وجود يذكر وسط قواعد الشعب السوداني ومع ذلك ظل هذا الحزب اكثر الاحزاب الصغيرة من حيث العددية والعضوية سعياً لحكم السودان وحاول أن يكون شريكاً في السلطة في انقلاب 19 يوليو عام 1971م الذي فشل وسقط بعد ثلاثة ايام وسعى هذا الحزب في عام الانقاذ الاول للقيام بإنقلاب عسكري كان له فيه القدح المعلى ( وذلك كان انقلاب ضد نظام انقلابي ) وفشل انقلابهم ودفعوا بكل أسف وحزن ارواحهم ثمناً غالياً . ومن حقهم كافراد أن ينال كل منهم حقوقه الدستورية وغيرها كاملة غير منقوضة وان يعتلي بمؤهلاته وقدراته اعلى المواقع في الخدمة المدنية وغيرها وأن يشارك بعطائه كمبدع ويساهم في كافة المناشط المجتمعية . وقبل صدور قرارات البرهان في الخامس والعشرين من اكتوبر الماضي كان حزب البعث شريكاً بارزاً في السلطة وأضحى احد اقطابه عضواً بمجلس السيادة وتولى بعضهم منصب والي ولاية ونالوا مواقع وزارية وكان وجودهم كثيفاً في لجنة تفكيك التمكين وسعوا لتمكين عضويتهم بالخدمة المدنية وغيرها في مرحلة التمكين المضادة .
وفي الثلاثين من شهر يونيو عام 1989م وقع الانقلاب العسكري الذي دبرت وخططت له الجبهة الاسلامية القومية بكوادرها المدنية والعسكرية . وفوجئ عدد من الضباط بإذاعة اسمائهم ضمن أعضاء مجلس الثورة وتم اختيارهم ممثلين لأسلحتهم دون ان يكون لهم سابق علم ومعرفة بهذا الانقلاب وشغل بعضهم مناصب وزارية وغيرها وعين بعضهم حكام في الاقاليم وتم التخلص منهم بالتدريج وأبعدوا من السلطة قبل سنوات طويلة ….. وفور نجاح الانقلاب يبدو جلياً أن توجيهات تنظيمية صدرت لأعضاء التنظيم للقيام بمهام امنية وتأمينية . والتنظيم المغلق القاصر على اعضائه فقط فيه تسلسل هرمي من القاعدة للقمة ومن ينتمون إليه هم أهل الحل والعقد والسر والهمس والنجوى فيما بينهم ولهم أمراء . ويلي اهل التنظيم اهل الظاهر من الذين لا علاقة لهم بما يدور في الباطن وهؤلاء هم الذين كانوا ينتمون للجبهة الاسلامية القومية واستوعب النظام أعداداً كبيرة من الكوادر المايوية القاعدية والوسيطة واستفاد من تجاربهم في العمل التنظيمي والخدمي وضم النظام اعداداً كبيرة من الإعيان الشعبيين الذين كانوا ينتمون للحزبين الكبيرين بمقاييس ذلك الوقت واستوعبهم في اللجان الشعبية والمجالس الريفية وفي مجالس المديريات والمجالس الاقليمية وفي المجلس الوطني وكان النظام يريد ان يجمل بهم صورته في الظاهر دون اشراكهم في الذي يخطط له ويدار داخل كواليسهم . وفي عام 1992م كون مجلس وطني معين وليس فيه عضو واحد منتخب ولم يحدث هذا من قبل حتى في عهد الاستعمار اذ كانت الجمعية التشريعية التي كونت في عام 1948م تضم عدداً من الاعضاء المعينين وعدداً من الأعضاء المنتخبين بطريقة غير مباشرة وفي عام 1996م أجريت انتخابات رئاسة الجمهورية وانتخابات المجلس الوطني وفاز عدد من النواب بالتزكية التي وصفت بانها اجماع سكوتي وكونت لجنة قومية للدستور ولجنة فنية وأعد الدستور الذي عرف مجازاً بانه دستور التوالي الذي اجازه ذلك المجلس في عام 1998م . وفي عام 2001م أجريت انتخابات رئاسة الجمهورية وانتخابات المجلس الوطني وكان المفترض ان تنتهي دورة رئاسة الجمهورية ودورة المجلس الوطني في عام 2006م وتجري انتخابات عامة رئاسية وبرلمانية وولائية ولكن بعد توقيع اتفاقية نيفاشا في عام 2005م تم تمديد دورة رئاسة الجمهورية حتى عام 2010م دون اجراء انتخابات في عام 2006م وتم حل المجلس الوطني وتكوينه بالتعيين بموجب اتفاقية نيفاشا دون ان يكون فيه عضو واحد منتخب وبموجب الاتفاقية تم الالتزام بتوزيع كافة المواقع السيادية والتنفيذية والتشريعية والولائية بنسب متفق عليها ليتم التقسيم بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وبعض الأحزاب الشمالية التي كان يضمها التجمع الوطني المعارض وبعض الاحزاب الجنوبية الاخرى وتنفيذاً لما ورد في الاتفاقية عين في المجلس الوطني والمجالس التشريعية الولائية والحكومة الاتحادية والحكومات الولائية عدد من المنتمين للحركة الشعبية قطاع الشمال وعدد من الذين كانوا ينتمون للتجمع الوطني من الشماليين وكان ما نالوه حقاً مكتسباً وليس منحة من أحد . وتوالى بعد ذلك انتخاب رئيس الجمهوية وانتخاب المجلس الوطني والمجالس التشريعية الولائية في عام 2010م و 2015م ولم يكن المجلس الوطني يسبب هاجساً للحكومة وهو أحد اذرع النظام الهينة اللينة وكان يعتبر ديكوراً جميلاً ( وأسد الرخام ليس بالفراس ) كما قال إيليا أبو ماضي .
والسودان الشاسع الواسع بشماله وجنوبه كانت فيه تسع مديريات فقط ومدير المديرية هو المسؤول التنفيذي الأول في المديرية الذي يقف على ميزانيتها وارقامها وخزينتها ومورادها وضبط منصرفاتها على دائر المليم وهو المسؤول عن كل المصالح الحكومية والمجالس الريفية ويوجد مجلس مديرية يضم شعبيين ورسميين من رؤساء المصالح وتكون اجتماعاته دورية او فصلية مع وجود لجان متخصصة . والعربات الحكومية عددها كان محدوداً والمهام التي تؤديها معروفة وتخضع كلها لمصلحة النقل الميكانيكي وبتغييب هذه المصلحة المهمة حدثت الفوضى والهمجية في العربات الحكومية … وبموجب قانون مارشال عام 1951م كان عدد المجالس الريفية أربعة وثمانين مجلساً في كل ارجاء القطر وكل مجلس ريفي كان بمثابة حكومة مصغرة لها هيبتها ووقارها والمواطن مرتبط ارتباطاً وثيقاً بها وفيها ضبط في ايراداتها ومنصرفاتها ويقف مفتش الحكومة المحلية على ما في الخزينة عند انتهاء ساعات العمل ويقف عليها في الصباح الباكر عند بدء العمل . واذا اخذنا صحة البيئة فقط على سبيل المثال فقد كان الاهتمام بها في كل المجالس الريفية كبيراً وكان الكناسون يحمل كل منهم مكنسة وقفة كبيرة يضع فيها الاوساخ ويعمل في المساحة التي حددت له مع مرور رئيس الكناسين للمراقبة والمتابعة وفي نهاية اليوم تأتي عربة مخصصة لنقل الاوساخ وحرقها في مكان بعيد ويقوم عمال الناموس بعملهم بإخلاص ويقوم ملاحظ الصحة ومساعديه بزيارات للمنازل في اوقات معلومة وبإذن مسبق من اولياء الامور للوقوف حتى على نظافة الازيار ولكن بعد انهيار الحكومات المحلية ومجالسها الريفية ومجالس المدن واستبدالها بوحدات ادارية باهته فان القاذورات انتشرت وتلال القمامة والاوساخ تراكمت في الاسواق والاحياء والقرى والاحياء الراقية ذات الطوابق العالية فان البرك الراكضة فيها كثيرة والاوساخ مكدسة في ساحاتها ومرد ذلك ان الحكومات المحلية المرتبطة بالمواطنين ارتباطاً مباشراً أضحت اثراً بعد عين . والحكومة المحلية اقرب للمواطن من حكومة الولاية او الحكومة الاتحادية … وفي عهد الانقاذ فان عدد المديريات في دارفور الكبرى وحدها بولاياتها الخمس زاد عددها على الثمانين مديرية وتحول اسم المديرية لمحافظة وتحول الاسم بعد ذلك لمحلية وعلى رأس كل محلية معتمد معين تعييناً سياسياً ولا يهمه ان تكون له سلطات مدير مديرية بل تهمه أن تكون له امتيازات الموقع وأبهته ووجاهته وتشريفاته وتكون تحت خدمته عدة عربات للعمل الرسمي او لخدمة المنزل والاسرة الكريمة ويمتطي هو عربة فارهة غالية الثمن عليها علم ويصحبه رجل مراسم ليفتح له الباب عند ركوبه او نزوله مع حمل حقيبته مع وجود حرس وسكرتارية وحاشية مع صرف بذخي يناسب هذه الأبهة . وهذه الإمتيازات لم يتمتع بنصفها السيد علي عبدالله أبو سن أول مدير سوداني لمديرية دارفور الكبرى بعد السودنة وكذلك لم يتمتع بمثلها نائبه السيد احمد مكي عبده الذي حل محله اصبح مديراً لمديرية دارفور بعده وقبلها كان اول مدير لمديرية الخرطوم بعد السودنة ( ولصغر المساحة الجغرافية لمديرية الخرطوم بالنسبة لغيرها من المديريات كان مديرها بدرجة نائب مدير مديرية ) ولم يتمتع بتلك الإمتيازات الاداريون البريطانيون الذين عملوا بدارفور في رئاسة المديرية او في المراكز وكانوا يتحركون بعربات كومر محدودة العدد مع التنقل بالخيول والجمال اذا اقتضى الامر ذلك ….. والمجالس الريفية كانت توزع عبر اللجان الشعبية في القرى والاحياء بالمدن المواد التموينية الضرورية بكميات واسعار معقولة وساهم ذلك في محاربة السوق الاسود وضبط الاسعار في الاسواق وكان المواطنون في القرى والاحياء يتفقون عبر لجانهم الشعبية على دفع سعر اعلى قليلاً عند شراء سكر التموين ويتم تجميع فارق السعر وتحويل قيمته لدعم المرافق الخدمية ( بابور مياه .. مدرسة .. شفخانة .. الخ) وبجانب ذلك كانت الجمعيات التعاونية في القرى والأحياء بالمدن وفي كافة اماكن العمل تبيع المواد التموينية والسلع الضرورية وغيرها بكميات واسعار معقولة وساهمت بذلك مثل التموين في محاربة السوق الاسود وضبط الاسعار في الاسواق وبلا مقدمات صدرت قرارات بإيقاف توزيع المواد التموينية وقفل هذا الباب وتضرر المواطنون من هذا القرار وتعلل من اصدروه بان سياسة تحرير الاقتصاد تمنح حرية تحديد الاسعار في البيع والشراء وهي التي املت ذلك وهذا قول مردود اذ يمكن ان يظل قانون العرض والطلب قائماً مع عدم حرمان المواطنين من التموين ولكن القرار المشار اليه انحاز لقلة من المحتكرين المسنودين سلطوياً ضد الاغلبية الكاسحة الساحقة من الشعب السوداني وبنفس الطريقة اضعفوا وحاربوا التعاون والتعاونيات من اجل ان تخلو الساحة لشركات الامن الغذائي التي لم يستفد منها المواطن وبهذين القرارين الظالمين استفادت وأثرت اقلية على حساب الاغلبية واخذ السوق الاسود وهو فك مفترس يسرح ويمرح …… وأواصل
صحيفة الانتباهة