أجريت، أمس الأول، حوارًا صحفيًا مع أول سفير أمريكي في الخرطوم يأتي بعد أكثر من 25 سنة من القطيعة الدبلوماسية بين البلدين على المستوى الدبلوماسي، والاقتصادي أيضًا.
الترتيبات للحوار استغرقت زهاء 3 أسابيع، لكونها الإطلالة الإعلامية الأولى له وحرصه على تفاصيل كثيرة، لضمان أن تساهم بدفع مهمته ولا تثير غبارًا عليها.
في سياق الحوار الطويل، لفتت نظري نقطتان مهمتان، الأولى تلميحه إلى أن تكوين حكومة مدنية في السودان هو أفضل اختبار لالتزام المؤسسة العسكرية بالخروج من الحكم والملعب السياسي..
ويعني بذلك خطاب رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، في 4 يوليو 2022 الماضي، والذي تعهد فيه بخروج الجيش من الحكم حال توافق المدنيين على حكومة تنفيذية تتسلم السلطة في البلاد، بل وعزز السفير الأمريكي الفكرة بقوله إن بلاده ستدعم الحكومة المدنية.
الذي أثار انتباهي في هذه النقطة، أنه وبعد مرور قرابة 3 أشهر على خطاب البرهان، لا تزال الأوضاع تراوح مكانها في السودان رغم طوفان البيانات التي تصدر من المكونات السياسية السودانية.
قوى الحرية والتغيير ”المجلس المركزي“، الحاضنة السياسية للحكومة المدنية المنقلب عليها، في 25 أكتوبر 2021، ظلت تشكك في ”النوايا“، وتفترض أن التزام البرهان بالخروج من الحكم ما هو إلا مناورة للالتفاف على حكومة مدنية ضعيفة تسمح باستمرار قبضة السلطة العسكرية من وراء ستار ”المجلس الأعلى للقوات المسلحة والدعم السريع“ الذي أعلنه البرهان في خطابه.
أما المتحور الثاني من قوى الحرية والتغيير (التوافق الوطني) فتصر على تأويل خطاب البرهان بأنه انسحاب من المفاوضات وليس من الحكم، بل وأصدرت إعلانًا سياسيًا يحافظ على شراكة المكون العسكري في مجلس السيادة واستمرار السلطة العسكرية في الحكم.
وبين موقفي جناحي الحرية والتغيير، طفت على سطح الأحداث مبادرات عديدة معظمها تجاهل التزام قائد الجيش بالخروج من الحكم، وكأني بها صورة كاريكاتيرية ساخرة أن يصبح خروج العسكريين من الحكم أصعب من دخولهم إليه.
والحال كذلك؛ استمر الأمر الواقع بل ازداد ترسيخه بسفر البرهان إلى بريطانيا للمشاركة في مراسم الجنازة الرسمية للراحلة الملكة إليزابيث الثانية، ثم سفره لتمثيل السودان أمام الدورة 77 للجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك وإلقاء خطاب السودان الرسمي.
رفض قوى الحرية والتغيير ”المجلس المركزي“ تكوين حكومة مدنية أمر يبدو غريبًا وغامضًا للغاية، فهي الحاضنة السياسية للحكومة المدنية القائمة، حتى 24 أكتوبر 2021، وطبيعي أن تكون قادرة على توفير توافق مدني على تشكيل حكومة ولو بمهام محدودة للغاية لا تعدو عملية استلام السلطة من المكون العسكري لحين التوافق على حكومة أخرى تستكمل الفترة الانتقالية.
وتفسيري لعزوف الحرية والتغيير ”المجلس المركزي“ عن محاولة تشكيل حكومة، ولو مؤقتة، هو إحساس بعض عناصر التحالف أن الخطوة تفتح بابًا لخلافات قد تعصف بالتحالف برمته، فمحور الخلافات السياسية في السودان منذ قبيل استقلاله، في يناير 1956، يدور حول كراسي الحكم، وما اختلى سياسي بالكرسي إلا كان الشيطان ثالثهما.
بعض قياديي الحرية والتغيير ”المجلس المركزي“ ظلوا يرددون أن الأحزاب المكونة للتحالف لا ترغب في المشاركة في الحكومة خلال الفترة الانتقالية، ويبدو غريبًا للغاية أن تعلن أحزاب سياسية أنها لا (ترغب في الحكم)! فما مهمة الأحزاب إذن؟ إن لم يكن ممارسة الحكم بل التنافس عليه كونه الوسيلة لتحقيق برامجها – إن وجدت-.
أوضح ما يصف الحالة السودانية الراهنة أنها ”حالة عجز“ مفرط، فلا الأحزاب قادرة على التوافق ولو على أدنى حد يسمح للبلاد أن تتجاوز هواجس الانهيار السياسي والاقتصادي، ولا هي راغبة بتقديم حلول أخرى بديلة عاجلة، فهي حالة عجز عن الفعل والاكتفاء بردود الأفعال عبر البيانات التي لا تكلف سوى رهق الضغط على لوحة مفاتيح الكمبيوتر.
أما النقطة الثانية في حوار السفير الأمريكي، فهي وضعه للسياحة في المقام الثالث للموارد الاقتصادية في السودان، بعد الزراعة والمعادن.
السياحة في الخاطر الرسمي السوداني لا تزيد على كونها وزارة تمنح في قسمة السلطة دائمًا للحزب الأضعف، تتقاسم الأحزاب الوزارات التي تصنف ”سيادية“، مثل: الدفاع، والخارجية، والداخلية، والاقتصادية، مثل: التجارة والصناعة، والزراعة، والثروة الحيوانية، وفي آخر المطاف تبقى دائمًا وزارة السياحة شاغرة في انتظار حزب صغير ليس له وزن سياسي ليقبل لها.
وفي العادة لا يكون مطلوبًا من وزير السياحة سوى تمثيل السودان خارجيًا، فكأنما مقصود بها السياحة في الخارج.. وسبق لي ترجمة مقال كتبه سائح أمريكي زار السودان، في العام 2017، قال فيه إن الوصول من أمريكا إلى الخرطوم شيء، والسفر من الخرطوم إلى أي مزار أثري سوداني شيء آخر، فليس هناك أية مقومات لوجستية تمكّن السائح من التنقل في مواقع سياحية أو أثرية بالبلاد.
موارد السودان السياحية هائلة من مزارات تاريخية أثرية، ومناطق طبيعية في مناخات متباينة، لكن العائق الأول في استثمارها هو غياب الاهتمام الرسمي بها، فحتى متحف السودان القومي الذي يعد أهم مزار سياحي، وفي قلب الخرطوم، ظل مغلقًا لسنوات طويلة نتيجة الإهمال رغم توافر الدعم الدولي الفني والمالي.
حل معضلات السودان الاقتصادية يبدأ بحل معضلته السياسية، والتي تبدأ بخطوة تشكيل حكومة ولو بمهام محدودة لا تتجاوز شهرًا واحدًا، لاستلام السلطة من المكون العسكري ثم لكل حادثة حديث بعد ذلك.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز