هكذا تحول “تيك توك” إلى “كوكايين رقمي”
“تيك توك” ليس مجرد فيديوهات قصيرة نجحت في تثبيت ما يزيد على مليار شخص أمام شاشاتهم النقالة، وهو ليس مجرد تطبيق ضمن تطبيقات التواصل الاجتماعي له ما له من مميزات تواصل وترفيه وفائدة وما عليه من محتوى قد يكون غير مناسب أو لائق. “تيك توك” وحش كاسر وقوة طاغية وتأثير غالب في نسبة معتبرة من سكان الكوكب. ويكفي أن هؤلاء السكان لم يعد لديهم الوقت أو الجهد الكافيين بعد الانتهاء من متابعة محتوى “تيك توك” لطرح السؤال المهم، ماذا فعل “تيك توك” بهم؟ وما أثر أفعاله في الجميع؟
الجميع يتعامل مع “تيك توك” من ثلاثة منطلقات لا رابع لها، إما صانع محتوى أو متابع للمحتوى أو يسمع عن المحتوى من آخرين. وصول عدد المستخدمين النشطين لـ”تيك توك” إلى مليار شخص يعني كثيراً، لا سيما أن هذا الرقم يعكس زيادة نسبتها 45 في المئة في عام واحد.
التطبيق الخارق
إنه التطبيق الخارق، لماذا؟ لأنه لم يعر بالاً أو يفكر مرتين قبل أن ينتشر هذا الانتشار غير المسبوق ويتوغل بهذا الشكل الخارق للعادة عدداً وفئات عمرية وعبر الحدود والثقافات، فلم يتوقف عند الحرب المكتومة المستعرة بين الولايات المتحدة الأميركية وغريمتها الصين، أو يأخذ في حسبانه أن التطبيق الصيني تم تحميله 200 مليون مرة في أميركا، ويستخدمه بطريقة فعلية ونشطة 138 مليون أميركي شهرياً.
هذه الأرقام والنسب ومعدلات الانتشار لم تهدر وقتاً في التوقف عند عناوين أخبار مثل “حظر تيك توك في أميركا للمرة الثانية” أو “هل يحظر تيك توك في أميركا؟” أو “تيك توك يطمئن مشرعين أميركيين حول سرية بيانات المستخدمين” أو “استمرار التوتر بين تيك توك وأميركا حتى بعد رحيل ترمب” وغيرها كثير. الشركة الصينية الأم للتطبيق التي أسسها الصيني تشانغ يي مينغ “بايت دانس” دفعت بمؤسسها إلى قائمة أثرياء الصين، ولم تكتف بوضعه على القائمة، بل آخذة في دفعه نحو القمة. في العام الماضي، صعد مينغ سبعة مراتب وتبوأ المركز الثاني على قائمة الأكثر ثراء في الصين، إذ وصلت ثروته إلى 59.4 مليار دولار.
مصدر المليارات
هذه المليارات مصدرها فيديوهات لا تتعدى مدتها 15 ثانية يتقاسمها ما لا يقل عن مليار شخص مع أصدقاء وغير أصدقاء، وتعرف طريقها من مشارق الأرض إلى مغاربها. وعلى رغم أنه لا يختلف عن غيره من المنصات كثيراً مثل “فيسبوك” مثلاً، إلا أن “تيك توك” فيه سم قاتل جاذب.
الجاذبية المبهرة تصفها “تيك توك” نفسها بأنها “المنصة التي تصور وتوثق وتقدم وجه العالم الخلاق والمعرفة، ولحظات الحياة المهمة عبر الهاتف الذكي. “مهمتنا إلهام الإبداع وجلب الفرح”.
لكن متابعين ومهتمين، ممن أفلتوا من قبضة “تيك توك” المهدرة للوقت والجهد وتبقى لديهم وقتاً وجهداً للتقييم، بدؤوا يلاحظون أمارات وعلامات وأعراض لإدمان “تيك توك”. صحيح أن منصات التواصل الاجتماعي جميعها تسبب الإدمان في حال لم يتم ترشيد استخدامها، لكن يبدو أن التعاطي مع “تيك توك” له أبعاد مختلفة وقد ينتج منه إدمان ذو آثار مغايرة.
الإدمان درجات
التعاطي والإدمان درجات وأنواع، لكن أصواتاً متصاعدة تحذر من أن إدمان الـ”تيك توك” أكبر بكثير من التعاطي ويمكن تصنيفه كأخطر درجات الإدمان. ووصل الأمر إلى درجة وصفه بـ”الكوكايين الرقمي”.
“بيرنشتيان ريسيرتش” الشركة المتخصصة في بحوث اقتصاد السوق، تقول إن خوارزمية “تيك توك” تدفع بالفيديوهات التي حققت انتشاراً فيروسياً إلى المقدمة، وتتحول الرغبة في متابعتها الواحد تلو الآخر كاستنشاقات بودرة الكوكايين. كل دقة يدقها المستخدم أشبه بجرعة “إندورفين”، وبعد تواتر الدقات يدمن المستخدم التطبيق بشكل لا يصدق. ويشير محللو “بيرنشتاين ريسيرتش” إلى أن تأثير تعاطي بودرة الكوكايين الفوري ينقشع سريعاً، لذلك يشعر متعاطيه بالرغبة في ضربة أخرى، وهو ما يؤدي إلى إدمان سريع.
الفضيلة أولاً
في ثقافات عديدة، ومنها الثقافات العربية، فإن جل الاهتمام والقلق جراء استخدامات منصات التواصل الاجتماعي ينبع من أثرها في الفضيلة والأخلاق والعلاقات بين الإناث والذكور وملابس النساء والفتيات في الفيديوهات وعلى رأسها “تيك توك”.
في مصر مثلاً أثار التطبيق موجة غضب عارمة وبعدها سجالات ونقاشات لا أول لها أو آخر جراء فيديوهات قدمتها شابات على “تيك توك” صنفها بعضهم باعتبارها مناهضة للفضيلة وتحض على الفسق والفجور، وتم تلقيب الفتيات بـ”فتيات تيك توك”، وصدر في حق بعضهن منهن أحكام بالسجن والغرامة، وذلك بغرض الحفاظ على الفضيلة.
ما تنقله الفيديوهات
لكن ما تنقله فيديوهات “تيك توك” عامر بكل ما يلذ وما لا يلذ من أفكار وقيم لا تقف عند حدود فضيلة الإناث وملابس الفتيات، إذ عرضت مدونة متخصصة في تنمية الذات اسمها “إلي دل” 10 مساوئ لـ”تيك توك” تتعاظم آثارها ويتمدد خطرها كلما زادت معدلات متابعة فيديوهات التطبيق. وقد خرجت بالمساوئ الـ10 بناء على استخدامها الشخصي المفرط لـ”تيك توك”، إذ أمضت أوقاتاً طويلة لا تستطيع حسابها وهي تطوف بين الفيديوهات المقترحة.
تقول إن الإفراط في متابعة “تيك توك” يدفع إلى مقارنة الذات بالآخرين بصفة مستمرة وبشكل هدام يؤثر سلباً في ثقة الشخص بنفسه، وتضيف أن المقارنة هي “حرامي البهجة”. كما أنها تدفع بالمستخدم إلى منعطف خطر نحو الإفراط في إعطاء أهمية للشكل المثال للجسم، ولم لا ونسبة بالغة من صناع وصانعات المحتوى يبدون في أفضل شكل وأكثر لياقة. ويمكن لفيديوهات “تيك توك” أن تكون ساحة عامرة بأسوأ وأقسى أنواع التنمر، وذلك من خلال التعليقات التي لا يمكن أن يوصف بعضها إلا بالوحشية. وتقول دل إن إفراطها في مشاهدة فيديوهات “تيك توك” أهدر وقتها من دون أن تدري لدرجة رهيبة، لا سيما أن من يفقدون السيطرة على دقائق المشاهدة عادة يبدؤون بقرار بأنهم سيشاهدون خمسة أو ستة فيديوهات، ثم واحد إضافي ثم اثنين وهلم جرا.
كذب المحتوى
والمبالغة في متابعة “تيك توك” ترفع من احتمالات تعرض المستخدم للمعلومات والأخبار الكاذبة والمضللة، وعلى رغم أنها سمة كل منصات الـ”سوشيال ميديا” إلا أن الإفراط في المتابعة المرتبط بالفيديوهات القصيرة يرفع احتمالات التأثر بالمعلومات الكاذبة. وكغيره من التطبيقات فإن سهولة عمل الفيديوهات وتحميلها تساعد في تكوين أقطاب متضاربة من الآراء ووجهات النظر واستقطاب المستخدمين في هذا الاتجاه أو ذاك مع العمل على تعميق الهوة بينهما بدلاً من تقريب وجهات النظر، وهو ما يزيد من الانقسامات والتحزبات داخل المجتمعات. وتشير المدونة إلى “ثقافة الإلغاء” التي تعمل فيديوهات “تيك توك” على تقوية أواصرها، فمحتوى “تيك توك” يسير عملية نبذ الأشخاص لأسباب مختلفة، سواء بسبب فكرة أو توجه أو معتقد أو تصرف أو مظهر.
وتنتقد دل كذلك غنى “تيك توك” بالمحتوى غير اللائق، لا سيما أن الإحصاءات تشير إلى أن نحو ثلث مستخدمي “تيك توك” تتراوح أعمارهم بين 10 و19 سنة، كما أن “تيك توك” من أكثر منصات التواصل الاجتماعي التي تقوم بعمليات حجب وفرض رقابة على مجموعات بعينها من المستخدمين. ويشار إلى أن بعضهم يشكو حجب محتوى لفئات بعينها مثل السود وأصحاب الأوزان الكبيرة، وهو ما يسمى “الحجب أو الرقابة غير العادلة”.
وأخيراً والأخطر هو أن “تيك توك” والفكرة القائمة عليه من فيديوهات بالغة القصر لا تزيد على بضع ثوان (حتى وإن سمحت تعديلات التطبيق بزيادة المدة أخيراً) تغذي وتجذر “فترات الاهتمام والتركيز بالغة القصر”.
وكانت شركة “مايكروسوفت” قد حذرت في دراسة لها إلى أن التأثير المتنامي للتكنولوجيا وضلوعها كمكون أساسي في الحياة ساهما في تقليص متوسط مدة التركيز أو الاهتمام لدى المستخدمين.
البحث عن السعادة
المستخدمون بشر، والبشر يسعون بالفطرة وراء كل ما من شأنه أن يمنحهم الشعور بالسعادة. يشاهد المستخدم بالصدفة فيديو 15 ثانية يسبب له قدراً من السعادة، فيبدأ الدوبامين (الذي يعزز الشعور بالسعادة) في العمل، فيدق دقة إضافية، يزيد الدوبامين، فيعاود الدق وهكذا.
شكوى زوج من أن زوجته تبدو وكأنها يتم تنويمها مغناطيسياً، يحدثها وهي تتابع مئات الفيديوهات، فلا ترفع عينيها من الشاشة، وإن رفعتهما تنظر إليه وكأنه شفاف، ووصف الابن لوالده بأنه منذ “دخل على تيك توك وهو يراه جالساً على الأريكة طيلة المساء، ولكنه لا يشعر بوجوده ولا يسمع له صوتاً”، وسخرية الأصدقاء من صديقهم الذي يخرج معهم بالجسد لكن يحلق بالروح في فيديوهات “تيك توك”، واتهام الزوجة لزوجها بأنه بات سريع الملل لا يكاد يصل إلى المطعم ليتناولا الغذاء حتى يرغب في المغادرة، أو يجلسان لمشاهدة فيلم فينتفض واقفاً باحثاً عن شيء آخر يملأ به الوقت، جميعها يندرج تحت بند أعراض تظهر على مدمني “تيك توك”، وفي قول آخر أعراض ما يشعر به “المتضررون” من الإفراط في متابعته.
مخ “تيك توك”
في مقالة عنوانها “كيف تفهم مخ تيك توك؟” (2022) منشورة في صحيفة “وول ستريت جورنال” تقول الكاتبة جولي جارغون إن في الأيام الخوالي كان الناس يتابعون فيديوهات على “يوتيوب” لبضع دقائق، أما حالياً فالمستخدمون يتلقون جرعات بالغة القصر والسرعة تجعلهم أكثر شراهة. وتشبه الكاتبة ما يجري في عقل المستخدم أثناء التنقل من فيديو “تيك توك” إلى آخر بما يجري للطفل حين يدخل محل حلويات ويبدأ في تذوق قطعة من كل نوع، فتزداد رغبته في تناول مزيد من القطع المختلفة بفعل “ماكينة الدوبامين”. وتضيف أن المستخدم يتابع فيديو يعجبه يمده بجرعة دوبامين محببة، فيدق مجدداً للحصول على جرعة إضافية، وحتى لو لم يحصل عليها في الفيديو التالي أو بعد التالي يظل يبحث عنها أملاً في مزيد، وكأن المستخدم يلعب القمار. يكسب ثم تتوالى الخسائر، لكنه لا يتوقف لأن الأمل في معاودة المكسب تظل تطارده.
ويتناول خبراء مصطلحاً جديداً يصفون به تقنية الإبقاء على المستخدمين أطول فترة ممكنة. “التعزيز العشوائي” يعمل في تطبيقات التواصل الاجتماعي على إبقاء المستخدم أطول فترة ممكنة، وهذا يحدث في “تيك توك” عبر مقترحات الفيديوهات التي يكونها التطبيق للمستخدم بناء على معلوماته الشخصية، إضافة إلى الاختيارات التي يقوم بها، وكذلك المدة التي يمضيها في متابعة فيديو من دون آخر.
أعراض الإدمان
إدمان هذا الكوكايين الرقمي له أعراض، الشعور بالعصبية وسرعة الانفعال والتوتر والشعور المفاجئ بالتعاسة لدى الحرمان من المتابعة التي اعتادها، كلها أعراض إدمان الشخص للتطبيق، وهي تشبه أعراض انسحاب المادة المخدرة من الجسم.
وسواء كانت الفيديوهات المفضلة للمستخدم ترفيهية أو ضاحكة أو سياسية أو خدمية، وسواء كان المحتوى يتسم بالأخلاق والفضيلة أو يناقضها، تظل الحقيقة واحدة. “تيك توك” آخذ في الانتشار، وتركيز الناس آخذ في الاندثار، وأمارات الإدمان مستمرة في الظهور، والغالبية تعتبر كل ما سبق فصلاً من فصول تطور الثورة الرقمية.
عربياً نجحت الشعوب في حفر مكانات متقدمة لأنفسها في مجال الغرق في الفيديوهات. وبحسب إحصاء صادر مطلع العام الحالي تبوأت السعودية مكانة الصدارة عربياً من حيث نسبة السكان المتصلة بـ”تيك توك”، إذ 88 في المئة من السعوديين ممن هم فوق سن الـ18 سنة متصلون بالتطبيق. وتلتها الإمارات العربية المتحدة حيث 81.3 في المئة من السكان متصلون بـ”تيك توك”.
عددياً وليس بالنسبة المئوية من عدد السكان، تأتي السعودية على رأس الدول العربية المتصلين بالتطبيق (23.6 مليون شخص) محتلة المرتبة الـ11 عالمياً، تليها مصر (21.3 مليون شخص) محتلة المرتبة الـ13، ثم العراق (20.2 مليون شخص) محتلاً الـ14 عالمياً.
إندبندنت