يمكن القول إن ثمة عطباً تأسيسياً استند إلى تاريخ خاص طبع الشخصية السودانية بصفات تتجلى اليوم كهوية لا مناص منها في إعاقة أي انتظام مدني يطمح إلى دولة متقدمة، فظاهر الاجتماع السياسي الذي تنخرط فيه الأحزاب السودانية اليوم هو دائرة مفرغة لا يمكن لها أن تعكس وعياً مختلفاً له القدرة على اختراق حال العطب الكياني للجماعة الوطنية، وهو عطب تبدو أخص خصائصه في الشلل الإرادي الذي يقعد تلك الأحزاب عن القدرة على رؤية المصير السياسي للوطن الذاهب بهم نحو المجهول، فيما هم على رغم التناقضات الحادة التي من شأنها أن تلفتهم إلى الواقع وتنبههم إلى خطر المستقبل، يفعلون الأمور ذاتها مرات عدة ثم يتوقعون نتائج مختلفة.
هذا ما استوحيته من ندوة أخيراً كان النقاش فيها عقيماً وعكس مدى المفارقة التي تنزح بالأحزاب السياسية والسياسيين عن مقاربة أي روح حساسة تكترث لطبيعة الأمور وعظم الأخطار التي تميل بالسودان ميلاً خطراً لا يراه أولئك السياسيون، فمن القدرة على البلاغة النسقية المؤذية إلى الحذلقة اللفظية المتهكمة إلى الانفصال عن الواقع من دون أي اكتراث يستعد لإدراك المعنى وفهم الحال في أكثر صوره مأسوية.
كانت وقائع الندوة التي عقدت أخيراً للنقاش السياسي حول مسودة مقترح مشروع الدستور الانتقالي وجمعت بعض ممثلي القوى السياسية المتخالفة، بمثابة علامة كاشفة عن امتناعات أصلية لا تبشر بخير في المستقبل، ليس فقط في كونها تعبيراً عكس تمانعاً صلباً بين المتحاورين عن إدراك لأولويات وبديهيات اتفاق بينهم يفضي إهمالها إلى العطب، بل كذلك في فقد الأمل في أي إمكان لاستدراك وعي جمعي في المستقبل.
تعطيل العقل الجمعي
في مثل هذه اللحظات التي تمر بها أزمة الاجتماع السياسي للدولة السودانية من دون أية قدرة على إعمال العقل الجمعي في ترتيب أولويات تحديات المرحلة، سيبدو أي توقع لانفراط عقد الدولة نحو المجهول ممكناً بل وقريباً، فإن يدافع شخص مثل رئيس حزب ما يسمى دولة القانون والتنمية محمد علي الجزولي (جماعة متشددة) في تلك الندوة عن الانقلاب العسكري الذي حدث في الـ 15 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بطريقة أضمر فيها دفاعاً عن نظام المؤتمر الوطني (الإخوان المسلمين) الذي دمر حياة السودانيين 30 سنة من خلال احتجاج صوري، مستنداً إلى الحق الذي يضمن، بحسب مادة أساس في مشروع الدستور الانتقالي لكل سوداني المشاركة السياسية، ليخلص من تلك الحجة المضللة إلى أن ذلك الحق الذي يضمنه مشروع الدستور لكل سوداني، ويعني بذلك منسوبي حزب المؤتمر الوطني، سيكون مخالفاً لأكثر من مادة من مواد الدستور الانتقالي التي تحصر تعيين السلطات في يد القوى الموقعة على الدستور.
الجزولي في مثل هذا يحتج لمشاركة منسوبي حزب المؤتمر الوطني السياسية بنص الدستور من دون أن ينتبه إلى أن قياسه العام هذا بظاهر مادة دستورية هو قياس فاسد ولا يصمد أمام حجة أن مثل قياسه هذا هو كمثل احتجاج المسجون في حقه بالحرية، على رغم الجريمة التي تسببت في سجنه بحجة أن “الناس كلهم أحرار”.
بالطريقة النسقية المجوفة في البلاغة نفسها مضى محمد علي الجزولي يبرر للمكون العسكري في مجلس السيادة ومن ورائه المجلس الأعلى لـ “نظارات البجا” الذي حرضه المكون العسكري على إغلاق الموانئ والطريق القومي من أجل إسقاط حكومة حمدوك، على أن قطع الطريق كان امتيازاً وعلامة لقوى الحرية والتغيير حين كانت تقود الثورة فتغلق شوارع الخرطوم الرئيسة أيام التظاهر ضد نظام البشير حتى أسقطته، من دون أن ينتبه الجزولي في قياسه الفاسد هذا أيضاً إلى أن الذين كانوا يغلقون الشوارع هم جميع ثوار المدن الثلاث للعاصمة الخرطوم وكانت أعدادهم بالملايين، أي غالبية مطلقة من بين السكان في ظل ثروة عارمة انتظمت في جميع مدن السودان حتى أسقطت رأس النظام، فيما اعتصامات إغلاق الميناء والطريق القومي التي كان يمارسها أنصار المجلس الأعلى لـ “نظارات البجا” بغباء، إنما كانت اعتداء على المرافق القومية العامة للمواطنين وتعطيل لمصالحهم، مع العواقب الوخيمة التي حلت بموانئ الشرق جراء إغلاق الميناء 40 يوماً.
تبرير الانقلاب
أما الأمين العام لتحالف التوافق الوطني مبارك أردول فكان أثناء الندوة يتحذلق متهكماً ومبرراً انحيازه للانقلابيين، تارة بضرورة انتخابات مبكرة هو أول من يدرك أن نظام الإخوان المسلمين سيفوز بها حال انعقادها من دون أية إصلاحات هيكلية في الدولة خلال المرحلة الانتقالية.
آلاف السودانيين يحتجون لتجديد المطالبة برحيل العسكريين
ثم بنى نقده على مشروع الدستور الانتقالي كما لو أنه دستور تمت إجازته وليس كمسودة، الأمر الذي سمح بتمرير نقده لقوى الحرية والتغيير بطريقة فيها من التهكم ما يعكس حقيقة الغرض في كلام أردول، ولا يوحي بأية جدية في النقاش المسؤول.
لقد كان هاجس مبارك أردول خلال حديثه عن مشروع الدستور الانتقالي وكلامه في نقده له أثناء الندوة يصور المرحلة الانتقالية كما لو أنها مرحلة بلا صلاحيات أو مهمات إصلاح أساس، وتطرق إلى بعض بنود “اتفاق جوبا” المتصل بعمليات الدمج والتسريح، وطبيعة تعقيداته التي قد تصل إلى أكثر من 10 سنوات.
كما اتخذ أردول من الفراغات التي تركتها وثيقة مشروع الدستور الانتقالي المقترح للتعديل وخلوها من زمن محدد للمرحلة الانتقالية وسيلة لاتهام نيات قوى الحرية في جعل المرحلة الانتقالية أطول فترة ممكنة.
صفقة تسوية
وكان واضحاً من طبيعة حديث مبارك أردول ومحمد على الجزولي دفاعهما المستتر عن “انقلاب الـ 25 من أكتوبر”، فيما بدا الهاجس الأكبر لهما الحيلولة دون أية صفقة تسوية بين العسكر وقوى الحرية والتغيير بتنسيق مع الرباعية الدولية والآلية الثلاثية، يخرج بموجبها كل من عبدالفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو الذي أعلن استعداده من قبل والتزامه بعدم التدخل في العملية السياسية.
أما عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي كمال كرار فقد كان حديثه معبراً عن طبيعة منطق الشيوعيين العمومي في استمرارية الحراك من دون تحديد أفق، متهماً الجميع بأنهم متواطئون مع الانقلاب، وداعياً إلى أن تكون مهمة المرحلة الآن هي فقط إسقاط الانقلاب.
لكن في وقت يبدو من كلام كمال كرار الحرص على إسقاط الانقلاب، نجد الحزب الشيوعي لا يضع يده في أي تنسيق مع قوى الحرية والتغيير لهذا الهدف الواضح جداً، إسقاط الانقلاب، فيما الجميع يدركون أن ما مكن لتحالف قوى الحرية والتغيير في عام 2019 من إسقاط رأس نظام المؤتمر الوطني في الـ 11 من أبريل (نيسان) 2019 هو سر تحالف كل القوى السياسية آنذاك تحت مسمى تحالف قوى الحرية والتغيير التي تعمل متفرقة اليوم.
هكذا يجد المراقب صعوبة في فهم فكرة التكتيك للحزب الشيوعي الذي يعرف تماماً أن المهمة هي بين جميع قوى الثورة توحيد مركز موحد للحراك والتظاهر، والعمل من أجل إسقاط الانقلاب في وقت يبدو هذا الحزب عائقاً أمام أي جهود للتوحد.
وفيما يشتغل الحزب من طرف واحد على تكوين ما سمي بقوى التغيير الجذري، وكأن المسألة الراهنة والملحة التي تمثل واجب الوقت ليست هي إسقاط الانقلاب، فإذا كان الحزب الشيوعي مؤمناً بأن المرحلة الراهنة تتطلب مهمة واحدة وعاجلة وهي مهمة إسقاط الانقلاب ويعلن ذلك ليلاً ونهاراً، فلماذا لا يعمل ضمن مركز موحد مع جميع القوى المناوئة للانقلاب؟
إسقاط الانقلاب
وإذا كان الحزب الشيوعي يتوهم أن التكتيك والاستراتيجية في مقتضيات لحظة المقاومة الراهنة وهدفها الأوحد إسقاط الانقلاب خطاً واحداً، وأنه إما أن يحقق أهدافه السياسية بهذا الطريق، فإن ذلك يتناقض أساساً مع حديثه ليلاً ونهاراً عن واجب إسقاط الانقلاب الذي لا يختلف فيه أحد معه من قوى الثورة.
لقد بدا واضحاً من سياق الامتناعات التي ظلت تعكس آفاقاً ضيقة وتمحوراً حول الذات الحزبية في وقت ليس فيه فائض للرفاهية، أن الأحزاب السياسية هي في الحقيقة تعبير عن مأزق كبير أمام أية صيغة أدنى لاجتماع سياسي جديد يسقط انقلاب قائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان.
أما في كلام القيادي بحزب الأمة صديق الصادق المهدي الذي شارك في الندوة ممثلاً لقوى الحرية والتغيير، فقد كان واضحاً أنه مدرك لطبيعة المناخ الذي عقدت فيه الندوة، لهذا وصف دعوة كل من محمد علي الجزولي ومبارك أردول بأنها دعوات تتماهي مع الشمولية، وبالتالي فإن المتوقع منها هو العجز عن أن تكون لها قدرة على نقد الانقلاب وتعريته، منوهاً بخطورة الدفاع عن نظام المؤتمر الوطني الذي وصفه بالنظام النازي الذي لا يزال يقتل في الشهداء وأودى بحياة 1000 قتيل في جميع أنحاء السودان منذ الـ 25 من أكتوبر العام الماضي.
إن الطريقة التي تبدو فيها نقاشات الأحزاب عارية من أي اكتراث للحال التي وصل إليها الوضع في السودان، نخشى أن تكون مؤشراً خطراً إلى لحظة الدخول في الفوضى والمجهول من دون أن تشعر هذه الأحزاب إلا حين تقع الفأس على الرأس.
محمد جميل احمد
إندبندنت عربية