ما دلالات دعوة الصين إلى رفع عقوبات مجلس الأمن عن السودان؟
كانت العلاقات بين بكين والخرطوم في عهد النظام السابق “هجيناً” من التعاون بين نظامين من أيديولوجيتين إسلامية وشيوعية
بدعوة نائب مندوب الصين الدائم لدى الأمم المتحدة داي بينغ إلى تعديل عقوبات مجلس الأمن المفروضة على السودان فيما يتعلق بإقليم دارفور، تكون الصين قد بدأت مرحلة جديدة في التعاطي مع الشأن السوداني والشأن الأفريقي بشكل عام.
اتجاه العلاقات الصينية – السودانية نحو حقبة جديدة كما يحددها التغيير السياسي في السودان والتفاعلات الدولية مع الصين، تتضمن توليفة من التطور المرتقب في العلاقات بعد فتور لازمها منذ اندلاع الثورة السودانية في ديسمبر (كانون الأول) 2019.
وتتزامن مع ما بدا أنه قبول غربي بحكومة الفترة الانتقالية بعد جفاء منذ إعلان إجراءات 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 التي فرضها رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، وتمثل ذلك في وصول السفير الأميركي جون غودفري إلى السودان ليكون أول سفير لبلاده للخرطوم بعد غياب دام 25 عاماً، ثم بداية تحركات الفريق البرهان بوصوله إلى لندن ومشاركته في مراسم تشييع الملكة إليزابيث الثانية، ومن ثم رحلته إلى الولايات المتحدة للمشاركة في أعمال الدورة الـ 77 للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وقد يوفر الوضع الراهن فرصاً لتنسيق السياسات مع بكين.
كانت العلاقات السودانية – الصينية في عهد النظام السابق “هجيناً” من التعاون بين نظامين من أيديولوجيتين إسلامية وشيوعية، واعتمد على الديناميات الاقتصادية التي اتضح أنها تريد تحقيق مجالات من التعاون تركز على بناء مكاسب ورعاية أهداف كل طرف من الآخر، أبعاداً أخرى من الاعتماد المتبادل غير المتكافئ.
نموذج بديل
تقدم الصين للدول الأفريقية بديلاً للنموذج الغربي، خصوصاً الدول ذات الدخل المتوسط والمنخفض، ولكن مع توفر الموارد الطبيعية، وهو النموذج الذي يحققه السودان ومعظم دول القارة الأفريقية.
وترعى الصين هذا النموذج من أجل نموها الاقتصادي وتحقيق بعض الانتعاش لهذه البلدان، وفي خضم هذه المهمة، عادة لا تولي الصين اهتماماً بعوامل مؤثرة أخرى مثل حقوق الإنسان والديمقراطية وحرية التعبير عن الرأي.
ومع ذلك فقد نجحت في أن تكون المنافس الاقتصادي الأول للولايات المتحدة، وربما تكون هذه الخطوة بداية التحرك نحو حلمها بمنافسة الولايات المتحدة حول القيادة العالمية، ويفسر التقدم الاستراتيجي للصين في أفريقيا، على أنه بهدف تحقيق هذا الحلم.
تعيد هذه الواقعة للأذهان هبة الدول الأفريقية لمصلحة الصين أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، إذ كان لها دور بارز في أن تحل “جمهورية الصين الشعبية” محل تايوان في مجلس الأمن باسم “الصين الشرعية”، إذ أعادت الدول الأفريقية للصين مقعدها، وعلى إثر ذلك طرد مندوب تايوان من المنظمة الدولية عام 1971، إذ صوتت 26 دولة أفريقية لمصلحة الصين، بينما اعترفت 22 دولة في جميع أنحاء العالم بتايوان. كما أجهضت الأصوات الأفريقية القرارات الدولية التي تدعو إلى عودة انضمام تايوان إلى منظمة الأمم المتحدة، أسهمت كذلك في تحقيق حلم الصين باستضافة دورة الألعاب الأولمبية لعام 2008.
في المقابل، أدى النمو الاقتصادي السريع للصين إلى رفع مكانتها باستمرار في السودان، خصوصاً أن التعاون ارتبط بالتنقيب والاستثمار في النفط.
الصين اليوم ليست مقيدة بحدودها ونفوذها المتزايد له مصلحة في القضايا الإقليمية والدولية، إذ لم تعد مصالحها مع الولايات المتحدة تقيد استخدامها روافع سياسية لخدمة السودان في أزمته مع العقوبات الدولية.
التصدي للغرب
كان موقف الصين تجاه الحرب الدائرة في دارفور بين النظام السوداني السابق والحركات الدارفورية المسلحة محايداً تارة ومرتبكاً تارة أخرى، ففي الفترة الأولى من أزمة دارفور اعتمدت الصين على رواية الحكومة السودانية بأن الصراع هو نتيجة لحركات عصيان مسلحة معزولة سيتم السيطرة عليها.
وعليه مضت الصين باتجاه تقديم المساعدة لحكومة السودان في التصدي للحملة الغربية لاحتواء الأزمة، وعندما كان مجلس الأمن الدولي يصدر عدداً من القرارات ضد حكومة السودان، كانت الصين تقوم بتخفيف القرارات حتى تتفادى استخدام حق النقض (الفيتو).
وعلى رغم أنها كانت تتفادى الدخول في أزمة دارفور عملاً بمبدأ “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول”، إلا أن النظام السابق توقع من الصين تعاوناً في هذا المجال، نسبة لوزن بكين الدولي كعضو دائم في مجلس الأمن، وما يمكن أن تقوم به نسبة للعلاقة الخاصة التي ترى أطراف النزاع في دارفور أنها تربطها بالنظام السوداني السابق.
ومع أنه كان مؤملاً استغلال الصين لهذه العلاقة كورقة ضغط، لكنها كانت ترى أن قضية دارفور لا بد من أن تحل بالوسائل الدبلوماسية والحوار بين الأطراف المختلفة، وأنه يتعين على الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة أن تقوم بأدوار بناءة في حفظ السلام في دارفور.
كما كانت ترى أنه من المهم وقف شامل لإطلاق النار في دارفور تحترمه كل الأطراف، والتعجيل بالمفاوضات السياسية مع التزام كل الأطراف بضمان توصيل المساعدات الإنسانية التي شكلت بنداً رئيساً في جميع الجولات التفاوضية بين الحكومة والحركات المتمردة، ولكن المساعدات وقفت عائقاً أمام الوصول إلى سلام بين الطرفين، إذ درجت الحركات المسلحة على طرح مقترحاتها بتوصيلها عبر الحدود الدولية، في وقت تمسكت الحكومة بتوصيل المساعدات من الداخل.
دور الوسيط
وفي خضم أزمة دارفور كانت الصين تقابل القرارات التي يصدرها مجلس الأمن الدولي حول الوضع هناك، إما بالموافقة أو بالامتناع من التصويت، وفي الوقت نفسه كان المسؤولون الصينيون يلعبون دور الوسيط لتليين موقف الحكومة السودانية تجاه المتمردين.
ومن تلك المواقف أنه في سبتمبر (أيلول) 2004 عندما أصدر مجلس الأمن الدولي القرار (1564) الذي دان القتل الجماعي للمدنيين في دارفور، ولكن وعد بأنه لن يصل إلى حد فرض عقوبات نفطية إذا امتثلت الخرطوم لأمر وقف قتل المدنيين، امتنعت الصين من التصويت وهددت باستخدام الـ “فيتو” ضد أي تحرك آخر لفرض العقوبات على السودان.
ولكن في عام 2007 عينت الصين مبعوثاً خاصاً للسودان بغرض “تهدئة المخاوف الأميركية والدولية”، كما طلب الرئيس الصيني آنذاك هو جينتاو عند زيارته الخرطوم في فبراير (شباط) 2007، من الحكومة السودانية “العمل بجد لإدخال متمردي دارفور في عملية السلام وإعطاء الأمم المتحدة دوراً أكبر في حل أزمة دارفور”
وبعد إعلان السودان التفكير في رؤية الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي نشر قوة مختلطة في دارفور، انتقد المبعوث الأميركي للسودان آنذاك أندرو ناتسيوس بكين لفشلها في ممارسة مزيد من الضغط على السودان في شأن دارفور، فأوفدت الصين مساعد وزير الخارجية الصيني تشاي جيون إلى الخرطوم بغرض إقناع الحكومة السودانية قبول قوة الأمم المتحدة لحفظ السلام، وبحلول منتصف عام 2007 قرر السودان السماح لقوات حفظ السلام الدولية الدخول إلى إقليم دارفور.
وتزامنت تحركات بكين مع إصدار الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش قراراً تنفيذياً في 27 أبريل (نيسان) 2006 يزيد من تشديد العقوبات على السودان، وتم توسيعه في نهاية مايو (أيار) 2007 وذلك بعد قرار مجلس الأمن رفع العقوبات المفروضة على السودان الذي رفضت الولايات المتحدة التصويت لمصلحته، وكان القرار مصحوباً بفرض قيود على سفر الدبلوماسيين السودانيين إلى الخارج بغرض إجبار النظام السوداني تسليم المتهمين في محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك في أديس أبابا في 26 يونيو (حزيران) 1995.
ديناميات القوة
العوامل المختلفة التي يمكن أن تعزز بشكل منهجي العلاقات بين السودان والصين تذهب في الاتجاهات التاريخية والمعاصرة التي يمكن أن تؤثر في مستقبل العلاقات الثنائية بين البلدين.
ومن ناحية أخرى تحدد العلاقات الاقتصادية بين البلدين الخطوط العريضة في الاستثمار وأهمه قطاع النفط والتجارة وقطاعات أخرى، وقد تحيط بالعلاقات بين البلدين تحديات تعتمد على متغيرين، الديناميات والتصورات الداخلية في السودان من بعض التيارات الثورية ولجان المقاومة التي ترى في علاقة السودان مع الصين إعادة لدبلوماسية النظام السابق، وديناميات القوة التي يمكن أن تكون حاجزاً في العلاقات، وهي توقعات واستجابة الولايات المتحدة التي قد تعطل عملية وضع استراتيجية جديدة للعلاقات الثنائية بين البلدين.
أما أحد العوامل التي تحد من شراكة الصين مع السودان فهي تخوف الحكومة الصينية من احتمال فرض عقوبات أخرى عليه، مما يؤدي إلى زعزعة الاستثمارات الصينية، كما أن تدخل بكين المتزايد في أفريقيا وتفضيلاتها يمكن أن تضع قيوداً مهمة أخرى على العلاقات السودانية – الصينية، فعلى مدى ثلاثة عقود أجبرت العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية المتعمقة للصين مع السودان ومعظم دول القارة الأفريقية على وقوفها كمنافس للولايات المتحدة في أفريقيا، ومع ذلك يسعى السودان في عهد ما بعد الثورة بشغف إلى إنعاش العلاقات وإعادة التجارة والاستثمار مع الصين، لكنه يظل قلقاً من رد فعل الولايات المتحدة وبعض التيارات الداخلية.
مصالح عميقة
من جهة ثانية، فقد استخدمت الصين (ومعها روسيا) حق النقض في مجلس الأمن لمصلحة السودان للمرة الأولى منذ بدء العلاقات السودانية – الصينية عند اعتراضها وروسيا نهاية ديسمبر 2014 على مشروع قرار من مجلس الأمن بإدانة السودان لطرده منظمات إغاثة إنسانية دولية، وهو ما يعد عملياً إسقاطاً لمشروع القرار.
وفي نظام إقليمي شديد التنافسية في أفريقيا، وفي ضوء تنافس الصين مع الولايات المتحدة على القارة السمراء، فإن الافتراض السائد هو أن الصين نظراً إلى مصالحها العميقة في أفريقيا لا يمكنها البقاء على الحياد دائماً مثلما كان موقفها في مجلس الأمن من القرارات ضد السودان، وكانت الصين حريصة على عدم تحدي الولايات المتحدة في أفريقيا.
ومع أن دولاً أفريقية أخرى لجأت إلى الصين لكي تخرج من إرهاب الغرب، لكن تعامل بكين مع الخرطوم مثّل الفرصة الاستراتيجية التي أتاحتها الالتزامات الأميركية بدعوى رعاية حقوق الإنسان والديمقراطية، وحافظت الصين على مكانتها كأكبر شريك اقتصادي للسودان خلال العقود الثلاثة الماضية.
وعلى رغم تقليص مشاركتها الاقتصادية بشكل كبير بعد الثورة، إلا أنها وقفت أمام مجلس الأمن تنادي برفع العقوبات التي يشير نائب المبعوث الصيني إلى أنها حدت بشدة من قدرة الحكومة السودانية على الحفاظ على الاستقرار وحماية المدنيين في دارفور، مما ينبئ بعودة الصين لتحسين وصولها المستقبلي إلى الطاقة والمواد الخام الأفريقية، فضلاً عن الفاعلية السياسية ثم الوقوف من جديد على حلبة المنافسة مع الولايات المتحدة.
مني عبد الفتاح
اندبنت عربية