عثمان ميرغني يكتب.. من “وهران” سلام

قضيت، الأسبوع الماضي، متجولًا بين مدن الجزائر الجميلة، من العاصمة إلى ”وهران“ ثم ”تلمسان“ في أقصى الحدود مع المملكة المغربية، مشاركًا في مؤتمر نظمه ”المرصد الوطني للمجتمع المدني“ في الجزائر، تحت عنوان ”منتدى تواصل الأجيال لدعم العمل العربي المشترك“، واستضاف شخصيات مهمة من الأقطار العربية كافة.

طوال جلسات المنتدى ظل يلح على خاطري سؤال تاريخي محوري، ألم يحن بعد قرابة الـ80 عامًا على تأسيس جامعة الدول العربية مراجعة بعض المُسلمات التي سادت المشهد العربي؟

ومن ذلك بالتحديد كلمة مفتاحية تمثل عُقدة الانطلاق نحو مستقبل أكثر اشراقًا، الكلمة بالتحديد هي ”المشترك“، فقد ظلت واحدة من مسلمات الخطاب العربي السياسي، خاصة في مواسم القمم العربية، مثل التي ستستضيفها الجزائر، في الفاتح من شهر نوفمبر 2022 المقبل، الذي يوافق الذكرى الـ 68 لانطلاق شرارة الثورة الجزائرية ”العام 1954“.

في تاريخنا العربي المعاصر، اشتركت الدول العربية في بعض الأعمال الموثقة، أشهرها المشاركة العسكرية أو الاقتصادية أو حتى المعنوية المباشرة في حرب أكتوبر 1973، وكان ذلك واحدًا من أوضح الأعمال التي انطلق فيها سهم العرب من قوس واحد.

لكن في المقابل –وعلى سبيل المراجعة التاريخية- توصيف المعركة حينها بأنها ”عمل عربي مشترك“ أغلق الباب أمام كثير من الشعوب التي ربما لو اتسعت لها فضاءات توصيف المعركة لكانوا جزءًا أصيلًا منها، وتمدد الوسم ليجعل في النهاية القضية الفلسطينية برمتها ”قضية العرب“ المركزية! وهو توصيف أيضًا يعرقل توسيع قاعدة المناصرين من غير العرب.

والدليل على ذلك التوسع الإسرائيلي في القارة الأفريقية منذ الثلث الأخير من القرن العشرين مستثمرة حالة كونها مواجهة وقضية ”عربية“ لا شأن للأفريقي بها، رغم أن حوالي نصف الدول العربية هي أفريقية، بينما إسرائيل دولة آسيوية لا يربطها الجوار القاري بالدول الأفريقية.

على النقيض تمامًا من معركة مشابهة في دولة جنوب أفريقيا حينما سيطرت الأقلية الأوروبية على الغالبية الأفريقية وطبقت نظام الفصل العنصري، ونجح الأفارقة بترسيخها قضية عالمية ترتبط بحقوق الإنسان وكرامته وليست مجرد مواجهة بيضاء سوداء بين أوروبي وأفريقي، فاتسعت المقاطعة لنظام ”الأبارتيد“ في جنوب أفريقيا لتصبح أقرب للإجماع الدولي بلغت مرحلة منع جنوب أفريقيا من المشاركة في دورة الألعاب الأولمبية وفُرض عليها حظر السلاح وطُردت من هيئات الأمم المتحدة وتضامن مشاهير الفنانين العالميين بإقامة مهرجانات موسيقية في كبرى العواصم وتحققت عزلة كاملة على جنوب أفريقيا لم تخرج منها إلا بعد سقوط نظام التفرقة العنصرية في العام 1990.

الإفراط في استخدام كلمة ”المشترك“ بتوصيف العمل العربي عمومًا نصب برزخًا لا يرُى بالعين المجردة أمام كثير من القضايا التي ترتبط بالعرب، لكنها تضرب في صميم الوجود الإنساني الذي يتسع لكل صاحب ضمير حي.

ولمزيد من التوضيح هنا، سأضرب مثلًا بالنموذج السوداني؛ فالسودان دولة عربية انضمت للجامعة العربية منذ استقلالها، في اليوم الأول من يناير 1956، وشاركت بحماس في كل الحروب العربية حتى قبل استقلالها، ومع ذلك فإن دولة السودان تعاني في الوقت الراهن من حالة التهاب حاد تتمثل في انقسام الهوية بين العربي والأفريقي.

ليس مجرد انقسام ثقافي ناعم بل بلغ مرحلة امتشاق الحُسام وتكوين حركات حاملة للسلاح ومتمردة على الحكومة المركزية ترفع لافتات سياسية لكن حقيقتها وجذورها الانقسام بين الهوية العربية والأفريقية.

ووصل هذا الانقسام مرحلة خطرة للغاية، إذ أصبحت مفردة ”عربي“ نقيض مواجه لـ“أفريقي“ والعكس صحيح، رغم كون القارة الأفريقية هي التي تتشرف بمقر جامعة الدول العربية.

للدول العربية مصالح كثيرة في تقوية روابطها، لكن دون الحاجة لوسم هذه المصالح بأنها ”عربية مشتركة“، فالمطلوب أن يكون للعرب إسهامهم الإقليمي، خاصة أن الدول العربية تتقاسم الوجود الجغرافي في القارتين آسيا وأفريقيا، ومطلوب من العرب إسهامهم العالمي في شتى المجالات لكن دون أن يحمل التشارك والفعل المشترك علامة تحاصره بكونه يعبر عن ”هوية“ عربية لا وجودية دولية وإنسانية.

الاتحاد الأوروبي -مثلًا- رغم توافر الهوية المشتركة إلا أنه ينهض على منصة الجغرافيا ولو اعتمد الهوية لربما كانت الولايات المتحدة الأمريكية عضوًا فيه.

واحدة من أفشل المسابقات الرياضية كانت بطولة الأندية العربية، رغم توافر التقدم والمنافسة العربية رياضيًا على مستوى العالم..

وبدأت هذه البطولة قبل 41 سنة، ومع ذلك توقفت 3 مرات لفترات طويلة في مقابل البطولة الأفريقية مثلًا للأندية التي تنتظم سنويًا دون توقف وتلقى رواجًا ومتابعة عالية، ولو خُيرت الأندية الرياضية العربية بين الفوز في البطولة العربية أو الأفريقية لاختارت الأخيرة لارتفاع تصنيفها و تأثيرها دوليًا.

وسقت هذا المثال لأدلل أن كلمة ”المشترك“ لم تنجح حتى في الرياضة، رغم نجاح العرب في المجال ذاته على المستويين القاري والعالمي.

من الحكمة إعادة توصيف الرابطة العربية بكونها ثقافية اجتماعية بل ووجدانية، دون تمديدها في مجالات قد تضعف ”العمل العربي“ عمومًا سياسيًا واقتصاديًا بل ورياضيًا.. أن يصبح ”العمل العربي“ هو فعل غير مشروط بـ“مشترك“ حتى ولو تصادف أن كانت أطرافه كلها عربية لتجنب حساسية إسقاط الهوية على أعمال قابلة وقادرة على أن تتسع قاريًا أو دوليًا بعيدًا عن شرط ”الهوية“.

للعرب أن يتضامنوا ويدعموا بعضهم البعض، لكن دون أن يحمل هذا التضامن والدعم رسائل سلبية للآخر غير العربي، حتى لا يُحجِّم العرب قدرتهم على التأثير والتفاعل مع محيطيهما القاري والعالمي.

والتاريخ يدعم هذا الرأي بقياس ”التأثير“ الذي أنجزه الفعل الثقافي والاجتماعي مقابل الفعل السياسي في العالم العربي. أيهما جمع العرب أكثر، خُطب الرئيس جمال عبد الناصر أم غناء الفنانة أم كلثوم؟ مثلًا.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

Exit mobile version