انطفأت روحي منذ أعوام فلم يعد الإيماض طابعي ولا التوثب قريني، تجفَّفَت الحياة الاجتماعية وتيبَّست عروقها وجفَّ صوتها الذي كان فيما مضى صدّاحاً. تسيدت الثقافة الباطنية المعتمة المسدودة، المسنودة بأوهام النرجسيات والمركوزة بغيهب الحياة السرية؛ أفق تلك الحياة الطلقة العذبة الشجية والموارة التي صارت تُسَمَّى اصطلاحاً بـ”الزمن الجميل”.
نحن الآن في لجة الزمن القبيح تماماً، فلا شيء يخفق له القلب وتترطب له الكبد ولا حديث يشعل الأخيلة.
شجون الذكريات الهتون من الماضي تمور مثلما تشرئبُّ الأعناق نحو سرابات الوعود. كل شيء قرين بالسأم؛ المذياع الشاشات الصحف الناس وما تبقَّى من أضلع النساء. ليس أمامك غير ماضٍ وَلَّى وحاضر أسود ومستقبل أكثر حلكة؛ فالقطة ذات الأبوين السود لن تلد سوى قطٍّ أسود.
صارت الأحاديث عن الأسعار هي أرفع درجات المؤانسة الشجي؛ كيلو الضأن، طبق الفول، سعر البيضة الواحدة، كيلو البامية، زجاجة الزيت. حين تجتمع هذه الرؤوس في حزمة واحدة يبلغ الأنس حينها الشأو المطلوب وتنداح الونسة مدفوعة بالحرقة مكتسبةً حرارتها من تطرف الأسعار و(الأجواف المهرية) والغبائن التي صارت تتمدد نحو أفقٍ بلا شواطئ وكراهية بلا مدى.
تبخَّرَ نثيثُ الحياة الندية وغطَّاها ثاني أوكسيد البؤس، فلا الناس بالناس الذين عرفتهم ولا الدار بالدار التي هي أعهد. كل شيء طعمه طعم الفراق، لم تعد النكهة مثلما كانت؛ امتدَّ الخراب حتى عمَّ الذائقة ولم تعد للبصلة قُدرَة استدرار الدموع. كل كائن فقد كينونته وكل كيان اكتفى بما كان.
أصبح الحرص على التدهور هو المهمة المقدسة التي يتصدى لها بهمّة الطرف الباطني الممسك بعصب وأعصاب الحياة، وهو في طريقه لإنجازها بكفاءة تحسدها القدرة، فيما تهيمُ نفوس وينزوي رجال وتموت مشاعل وتنتحر قصيدة ويسافر الناس بمركبات الأخيلة نحو أزمنة الأيام الخضر بهدف التوازن.
لم يعد الصراع صراع فكرة مقابل فكرة، أضحى معركة (أَقلِّية فاعلة) في مواجهة حشود مُعطَّلة، وانعقدَ النصر لتلك الأقلية التي امتصَّت آخر ما تبقى من ماء العيون، وكانت النتيجة ذلك اليباب وتلك الفجيعة والتيه وذلك السراب الذي يلمعُ في المفازات البعيدة.
غابت كل الملامح الجمالية في الحياة العامة التي تكتظُّ الآن بكل سمات الغِلظَة والقبح والتخشب، وتمتلئ بالهواء الفاسد ولا تطرح غير الغازات السامة، وتعجز عن تقديم اقتراحٍ جماليٍّ واحد.
صحيفة الانتباهة