“أقرب موارد العدل القياس على النفس”.. جمال الدين الأفغاني..!
لو عكف خبير على دراسة لغة أجساد – وقراءة ملامح ونبرات أصوات – معظم نجوم برامج الفتاوى والتثقيف الديني على قنواتنا التلفزيونية، فلن يخلو تقريره من رصد وتوثيق لما يمكن أن نطلق عليه “متلازمة فتاوى النساء”. وهي حزمة متغيرات “لا شعورية” تصيب معظم علماء وفقهاء بلادنا الأجلاء عند الحديث عن موقف الدين من معظم شؤون المرأة. استثنى من هؤلاء قلة قليلة نجحت في عبور حاجز النوع إلى رحابة الانتماء الإنساني الجليل. والسبب – في تقديري – ليس ذنب هؤلاء ولا فضل أولئك، بل هو اختلاف إيجابي في عامل التربية..!
فالرجل السوداني – التقليدي – الذي يسير أمام زوجته مسافة متر في الشارع العام حتى لا يتهم بجريمة المشي جنباً إلى جنب مع امرأته، والذي تربى على الترفع عن كل شأن نسائي باعتباره منقصة والتسليم بدونية المرأة لمجرد كونها تحيض وتحمل وتلد وترضع وتخرج عن دائرة فروض الكفاية في أحكام الجهاد وصلاة العيد والجمعة، والذي نشأ على إطلاق جملة “كلام حريم” على كل ساقط قول.. والذي.. والذي.. لا يستطيع بأية حال أن يتناسى إرثه الثقافي – وإن التزم الحياد الشرعي – في كل فتوى تخص امرأة!. لا بد أن تخرج منه كلمة أو تصدر عنه إيماءة تستدعي إرثه التربوي عندما يذكر جنس النساء..!
لذلك نقول إن صور دونية المرأة في هذا المجتمع ليست كلها حوادث ضرب وظلم وأكل ميراث بالباطل وعضل ولي أمر، بل إن أعمق وأخطر تلك الصور هي عدم احترام نصيبها في الرأي والقرار وحقها في اختيار الأفعال الإنسانية الحرة التي يقرها الشرع وتمنعها التقاليد البليدة والأعراف الفاسدة. أذكر – مثلاً – أن تحريم التصويت للشيوعيين والنساء في الانتخابات الأخيرة كان موضوع خطب لبعض أئمة المساجد في الخرطوم. فالمرأة تقف على قدم المساواة مع الشيوعي في عدم أهليتها لتولي مناصب تسير من خلالها شؤون المسلمين..!
وللتدليل على قطعية ثبوت رأيه في حكم النساء، ساق أحد الأئمة حكاية الهدهد الذي أبلغ سيدنا سليمان بنبأ بلقيس (وَجِئْتُكَ مِن سبأ بنبأ يَقِينٍ* إِنّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شيء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ). فاستدل بدهشة الهدهد من مظاهر ملك بلقيس ثم أسس عليه فتواه بمخالفة مبدأ تقلد النساء للمناصب السياسية مع الفطرة والدين..!
مع أن المتأمِّل في الآيات الكريمة التي تضمنت قصة الهدهد يفهم بسهولة أن أسباب دهشة الهدهد قد تكمن في عظمة جاه بلقيس التي أوتيت من كل شيء، وفي وصف عرشها العظيم.. وحتى إن كان حكم امرأة لقومها هو مبعث الدهشة فهو كذلك بمقاييس الزمن الذي عاش فيه الهدهد..!
صحيفة الصيحة