قد لا نبعد النجعة إن قلنا إن السودان يعيش منذ عقود ربما في “أبارتايد” معرفي يفصل ما بين المدينة والريف. فصفوة المدينة في الحكم والبيروقراطية والسياسة والصحافة اعتزلت الريف وتركته يدبر حاله (to its own devices). ففي غياب الديمقراطية الذي تطاول صارت القبيلة هي مركز الدائرة في السياسة، وفي غيبة الأحزاب صار الحزب الوحيد المأذون له بالعمل من وراء حزب الحكومة الواحد في انتخابات المجالس النيابية الولائية خاصة. أما مع الريف “المتمرد” فانتهجت الحكومات في المركز نهج فرق تسد بما يعرف بـ”كسر التمرد بأقل تكلفة”، أي بعقد أحلاف مع جماعات وأطراف بجهة التمرد تتولى محاربته عن الحكومة.
أما الصفوة في المركز، فشملت تحت “النزاع القبلي” كل ارتباك فيه وامتنعت عن النفاذ إلى معرفته، أما القوى الحداثية خاصة منهم فكفت عن التفكير في قضايا الريف منذ احترقت أصابعها بعد أن ارتدت بالخيبة قراراتها لتغييره من عل على أيام انقلاب نميري اليسارية والتكنوقراطية الباكرة. فتركت هذه الصفوة بعد نكستها الريف بما حمل للإدارة الأهلية أو الحركات المسلحة، وترتب على ذلك كما سنرى مدينة خالية ذهن من المعارف عن الريف لتسترشد بها في إحسان إدارته أو تعزيز تحالفها معه في ثوراتها الكثيرة. ومن الجهة الأخرى، تجد ريفاً متروكاً ليدير حاله بنفسه، وسنرى تجلي هذا الأبارتايد المعرفي في وقائع تجدد الصراع الدموي في إقليم النيل الأزرق بجنوب شرقي السودان منذ أيام.
لم يمر شهر على اتفاق وقف العدائيات بين شعبي السلطنات والهوسا في إقليم النيل الأزرق حتى تجدد الصراع الدموي بينهما في الأول من سبتمبر (أيلول) الحالي. فقتل شعب الهمج من السلطنات 12 رجلاً من الهوسا، وسقط عشرات الجرحى بينما ذبح آخرون في منازلهم التي أحرقت، ونزح المئات إلى مدينة الدمازين حاضرة الولاية. ورد الهوسا بقتل أربعة أشخاص وإصابة 25 شخصاً مع حرق للمنازل. وقالت اليونيتامس، بعثة الأمم المتحدة في السودان، إنها تتابع تجدد هذه العنف بقلق عميق. وهو عنف، في قولها، فشا في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق منذ انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2022.
لم يعد نقض مواثيق السلام التي تعقدها الحكومة بين الجماعات السودانية مستغرباً، فهذه المواثيق مجرد طقوس سلطانية سماها أحدهم “إطفاء الحريق” مؤقتاً. ويتداعى لها الوالي وقائد المنطقة العسكرية ومدير الشرطة وطائفة من الرسميين مع زعماء من الإدارات الأهلية. وتنعقد بين التبريكات واستدعاءات للرحم الوطني والديني الذي آخى تاريخياً بين أطراف النزاع، وهي تبريكات واستدعاءات بمثابة تخليص لجسديهما من “عمل” المغرض، الذي لا يسمى، ودخل بينهما بالفتنة. فيبدو الصلح بهذا طقساً لطرد الأروح الشريرة التي تلبست الأطراف فأخرجتها عن طورها السلمي إلى الاقتتال وهو كره لها. وكانت الحكومة تولت في بعض الأوقات جبر الضرر من الصراع بدفع دية القتلى من الأطراف إرضاء لهذه الأرواح لتغادر جسدها النازف.
ما جعل اتفاق السلام بين أطراف النزاع في الريف، طقساً لا عهداً، أنه لا بيروقراطية المركز الحكومي ولا صفوة المدينة ترى لمثل هذا النزاع سبباً. فهو “نزاع قبلي” وكفى. ويثور مثله لأن الاقتتال في طبع الريف، أو لأن “الأهالي” لا يعرفون أفضل منه سبيلاً في الحياة، أو أنهم مأمورون على النزاع بعقلهم “الرعوي” الغلاب.
ولم يفاجئ تجدد العدائيات بالنيل الأزرق هيئة مثل مفاجآته للحكومة نفسها، أو هكذا زعمت. فاستغربت الحكومة لانبعاث “النزاع القبلي” الذي لا تعرف له سبباً. فقالت إنه قام “من دون أسباب واضحة على الرغم من الإجراءات التي اتخذتها السلطات واتفاق وقف العدائيات الموقع في الشهر الماضي”، بل كونت الولاية لجنة في أثر اندلاع الصراع لمعرفة ملابسات هذا التجدد. وبدا أن الحكومة نسيت، أو تناست، أنها في منعطف دقيق من النزاع في يوليو (تموز) الماضي اعترفت بصورة غير مسبوقة بأن الدافع للصراع هو مطالبة الهوسا بتنصيب ناظر عليهم بما لا يأذن به قانون الإدارة الأهلية للقبائل. فليس لجماعة مثل الهوسا أن تنال رتبة النظارة في إدارة شأنها طالما أقامت في دار هي فيه ضيف على جماعة مالكة للدار. وهذه المطالبة بالنظارة من الهوسا هي ما أغضب شعب السلطنات، ملاك الدار التي استوطنتها الهوسا، ودفعهم للاعتداء عليهم في يوليو الماضي. فقتلوا منهم وعوقوا وشردوا 42 ألفاً منهم لتضمهم مبان حكومية تحت حماية القوات المسلحة، أو ليفر المئات منهم إلى ولاية أخرى جارة.
فكيف يستقيم نفي الحكومة أن يكون لتجدد النزاع من سبب في حين سبق لها القول، إن سببه في نظم الحكم التاريخية التي رتبت لمواطنتين في ريف السودان هما مواطنة “سيد الدار” ومواطنة “التبع” أي الضيف على الدار. ومع أن التزامات “التبع” التقليدية لسيد الدار مثل المكوس على الرعي والزراعة قد ربما زالت إلا أن النظارة، وهي الرمزية السياسة لتملك الدار اقتصرت بالقانون، لا تزال على أسياد الدار من دون غيرهم.
وليس الهوسا بدعاً في المطالبة بالنظارة، ففي الخرطوم مكان “الطيارة بتقوم والرئيس بينوم” في عبارة سائرة في السودان، وفي جوارها مباشرة تنادت جماعات بذاتها إلى نيل رتبة النظارة. فطلبت النظارة جماعة الكواهلة الحسانية بغرب النيل من مدينة شندي. ودعت لمؤتمر أهلي منها لإعلان استقلالهم بنظارة من طرف واحد عن جماعة الجعليين على طول النيل من عند الخرطوم إلى التقائه بنهر العطبرة. فاحتج الجعليون وطلب ناظرهم من الحكومة منع اجتماع الحسانية “حقناً للدماء وحفاظاً على النسيج الاجتماعي”، بل منعت سلطات أمن ولاية الخرطوم قبل أيام جماعة المغاربة في صميم مدينة الخرطوم بحري من الاحتفال بإعلانها النظارة من طرف واحد معتزلة جماعة البطاحين أصحاب الدار التاريخية التي سكنها المغاربة.
المطلب بالنظارة فوق الحيثيات التي أتينا عليها صادر عن غبن ما تحسه الجماعات التبع في دار غيرها وتحت إمرته. فأعراف الإدارة الأهلية وأحكامها التي جعلت التبع بمثابة مواطنين من الدرجة الثانية، إما مجهولة عند الحكومة أو منكورة، فما انعقد مؤتمر صلح بين خصوم مثل الذي رأيناه في النيل الأزرق حتى تحسرت الحكومة على الخلاف الذي كدر العلاقات التاريخية الطيبة التي انعقدت بين الأطراف، وجعلت الحكومة من هذه المقدمة مدخلاً “لنظرية مؤامرة” تتهم بها كياناً مجهولاً بالفتنة بين هذه الأطراف، وتطلب منها الاستماع إلى صوت العقل، واستئناف أمانهم التاريخي، وتفويت الفرصة على المتربصين بهم. ولا يصدر مثل هذا القول، وقد وقفنا على حيثيات تظلم الجماعات التبع من الجماعات السيدة، إلا عن جهل ببولتيكا النظارة، فتلحق الإهانة بالجماعة التبع المجردة من النظارة في إدارة شأنها، وتضرب الحكومة صفحاً لتصر أن ليس بين الأطراف ما يوجب النزاع إلا بفعل من مشى بينهما بالفتنة، وبلغت هذه الإهانة من علاقة التبع حداً سماها ناظر جماعة حظيت بالنظارة في 2019 بـ”الاستعمار”. وقال إن يوم نيلهم النظارة كان بمثابة يوم تحررهم الوطني.
التغيير السياسي في السودان مثل ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 من مواسم مطالبة الجماعات التبع بالنظارة. فأكثر صراعات النظارة دموية بين شعب الرزيقات والمعاليا وقع في 1965 في أعقاب ثورة أكتوبر 1964 التي نادت صراحة بتصفية الإدارة الأهلية. ولا يخفي الهوسا أن ما ألهمهم طلب النظارة هو اتفاق سلام جوبا في أغسطس (آب) 2020، الذي كرم المواطنة السودانية بجعلها حقاً لكل سوداني بلا امتياز لأحد فوق أحد.
ومن رأيهم أن الحق التاريخي بملكية الدار والنظارة المترتبة عليه مما ينتقص من هذه المواطنة. وصح في نظرهم بالتالي تعديل ملكية الأرض بالريف لتنهي للأبد المواطنتين اللتين ضرجتا تاريخه طويلاً. واقتران التغيير السياسي بمطلب النظارة مما ربما فات على فولكلر بيرتس رئيس بعثة اليومنيتاس، فقد استنكر كما رأينا تجدد العنف في منطقة النيل الأزرق في الوقت نفسه الذي طالب فيه بالتطبيق الشفاف لاتفاق سلام جوبا. ويستحيل فهم العنف في النيل الأزرق وعلاجه إلا بعلاقته بالتغيير السياسي الذي اتفاق سلام جوبا ذروة فيه. فحرر الاتفاق المواطنة من قيود منها “التبع” لسادة الدار في الأرياف.
فض النزاع في مثل الحادث بين شعبي السلطنات والهوسا رهين بإنهاء “الأبارتايد” المعرفي القائم بين المدينة والريف. فليس بوسع مدينة خلو من العلم بريفها أن تحسن تشخيص نزاعاته لوضع الأمر في نصابه مرة وإلى الأبد. وبالعدم سيظل الريف بؤرة نزاع تتداركه الحكومة بطقوس الصلح ورأب الصدع، فيخفت النزاع هوناً ليندلع من جديد، وهكذا دواليك.
عبدالله علي ابراهيم
إندبندنت عربية