ضجة كبرى ثارت في السودان الأيام الماضية بعد تسرب معلومات عن قرار صادر من السيد وزير المالية الدكتور جبريل إبراهيم بإعفاء سيارة من رسوم الجمارك يملكها ابن أخيه..
ازداد لهيب الفورة الشعبية بعد تصريحات صحفية دافع فيها الوزير عن القرار قائلا إنه لا يجد فيه حرجا، لأن سلطاته تتيح له منح الاستثناءات، وقد تكرر الأمر نفسه لجهات أخرى كثيرة.
رغم قوة الغضبة الشعبية على قرار وتصريحات الوزير، إلا أن الأمر لا يعدو كونه قصة قديمة يُعاد سردها بين الحين والآخر لتشغل الأثير الجماهيري بعضا من الوقت قبل أن تتلاشى خلف حُجب القضايا المستجدة.
قبل عدة سنوات؛ وزير مالية سابق بالسودان كان في زيارة رسمية للولايات المتحدة الأمريكية فاصطحب ابنه الطفل معه، وانتهز الفرصة لعلاجه في إحدى المستشفيات الأمريكية على حساب الخزينة السودانية، وكانت التكلفة أكثر من 100 ألف دولار، أثارت الضجة ذاتها قبل أن تخبو تدريجيا وينساها الناس.
في العهد الحزبي الثالث (1986-1989) ثارت ضجة كبرى بعد الكشف عن تعويضات مالية ضخمة أمرت بها الحكومة لعائلة رئيس الوزراء وبعض الساسة الأخرين، وكالعادة انتهت الضجة ولم تكسر خاطر مسؤول.
قبل سنوات أيضا أثيرت ضجة كبرى حول عقد وقعته جهة حكومية مالية مع أحد الموظفين براتب ضخم وحوافز تفوق مستحقات رئيس الوزراء نفسه، وانتهت الضجة بلا شيء.
هذا على سبيل المثال لا الحصر لسوابق مماثلة كثيرة يرتفع فيها صوت الدهشة بل الصدمة من إجراء مالي حكومي يستنزف الخزينة العامة، لكن تنتهي دائما الصدمة وتتلاشى ويبقى الحال على ما هو عليه.
لم يفقد مسؤول منصبه، بل حتى في الحالات النادرة التي تكونت فيها لجان تحقيق كانت تتلاشى بهدوء مع انحسار الضجة وكأنها مجرد مسكنات لتخفيف حمى الانتباه الشعبي للقضية لا أكثر.
ويقيني أن هذا المسلك سيستمر ولن تنجح الثرثرة الجماهيرية في منعه، مهما تغيرت النظم الحاكمة، طالما أن المشكلة الأساسية ليست في قرار الوزير بل في موقع آخر تتجاهله الغضبة الشعبية.
أي موظف حكومي في أي مستوى يتمتع بمساحة ”تقدير إداري“ تتيحه اللوائح ان وُجد بها نص صريح أو في حال غياب النص يتمدد مبدأ (أجتهد رأيي ولا آلو..) كما قال معاذ بن جبل عندما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يبعثه إلى اليمن كيف يقضي بين الناس؟، قال إنه يقضي بكتاب الله، فإن لم يجد فيه نصا واضحا فيقضي بالسنّة الشريفة، فإذا لم يتوفر نص محدد فيلجأ للتقدير الذاتي.
وطالما أن (التقدير الإداري) حق متاح للموظف العام، فإنه يقبل الصواب والخطأ كونه تقديرا بشريا غير معصوم من الزلل، وليست تلك هي المشكلة.
المشكلة الحقيقية في النموذج السوداني هنا، ليست في القرار ولا التقدير الإداري بل في أجهزة المراجعة والمساءلة والمحاسبة.
من حق الوزير أن (يجتهد رأيه ولا يألو) ويصدر القرار بناءً على التقدير الإداري المتاح له، ولكن يبقى السؤال، أين الأجهزة التي عليها أن تراجع هذا التقدير الإداري، وتخضع الأمر للمساءلة ثم المحاسبة إن تجاوز التقدير الصواب؟
قبل أكثر من سنة ثارت ضجة حول قرار اتخذه المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية بشراء مبنى إداري بالخرطوم بقيمة تتجاوز 50 مليون دولار، وقبل أن تهدأ الضجة عادت الفورة الشعبية على خلفية قرار آخر لنفس المسؤول منح بموجبه مبلغا ماليا كبيرا لحاكم إقليم دارفور لإقامة حفل تنصيبه، وكالعادة تمر الأيام ويتلاشى الغضب ويتوارى خلف سحب النسيان.
لم يثبت في كل العهود أن ردود الفعل الشعبية الغاضبة أدت في النهاية لتغيير المسلك الذي يبدد أموال الدولة في ”تقديرات إدارية“ تقع بين الخطأ والخطيئة.
بهذا الفهم، فالعلة ليست في قرارات الوزير أو أي مسؤول، بل في غياب الأجهزة المرجعية، على المستوى الإداري الأعلى وأيضا تلك التي يقع تفويضها الرسمي في مسار موازٍ يتعلق بالمراجعة والمساءلة والمحاسبة، مما يؤدي لاستمرار ”التقديرات الإدارية الخاطئة“ بل التمادي فيها، وأحيانا استسهال القرار الإداري مهما كانت آثاره وخيمة، طالما عين الرقيب نائمة وفواتير المحاسبة مُغيّبة والخوف من المحاسبة منعدم تماما.
وبمثل هذا الوضع، تصبح الغضبة الشعبية على مثل هذه القرارات تكريسا للممارسة، فالمسؤول الذي يجد نفسه سالما غانما في وسط العواصف الشعبية سيفقد القدرة على الإحساس بخشية الرأي العام، فيستوي في عينه رضا الشعب وغضبه.
في الحالة الراهنة التي واجه فيها وزير المالية عاصفة غضب جماهيري وهو لا يكاد يستشعر الخشية على منصبه منها، كان الأولى أن يتوجه الغضب الشعبي تلقاء الأجهزة الأعلى ممثلة في مجلس الوزراء ثم الأجهزة الموازية وهي بالمراجعة الداخلية في الوزارة، ثم المراجع العام القومي الذي يحظى بسلطات وتفويض واسع كونه يرفع تقاريره للهيئة التشريعية مباشرة، وللنيابة في حال اقتضى الأمر إجراءات جنائية.
أما في حالة الشركة السودانية للموارد المعدنية، وهي واحدة من أثرى مؤسسات الدولة، فالسؤال أين مجلس الإدارة؟ هل يحظى المدير العام بسلطات مطلقة لا تحدها قيود للتصرف في أموال الشركة بـ“التقدير الإداري“ بلا حدود لائحية محاسبية وإدارية، ودون أن تكون للشركة أجهزة مراقبة داخلية إضافة لمتابعة وتدخل مجلس الإدارة وهو الجهة الأعلى في الترتيب الهيكلي.
إذا اتجهت الضجة الشعبية تلقاء الهيئات المرجعية وأجهزة الرقابة والمحاسبة فسيكون صعبا الوقوع في أخطاء ”التقدير الإداري“ الذي ستقيده اللوائح وتحرسه الرقابة والمساءلة والمحاسبة والعقاب.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز