ليت العافية تعود إلى السكة الحديد يا أحباب، وليت (قطار الشوق) يستفيق من سباته ليوقظ فينا الكثير الجميل، لا يهم أن يكون مزعجا يصيح فينا (الدغفلي قلبي انقطع)، ولا يهم بأن يكون كهربائيا يخفت صوته الاّ من أزيز، انما المرام أن تُبثّ الروح في الجدث من جديد وتعم السودان شبكة قطارات تضخ الدم في شرايين هذا السودان المكلوم…
فكم لجيلي من ذكريات مع القطار والسكة الحديد، وإن نسيت فلا أخالني أنسَ سَقَط أبوحمد الذي يفوق شتاء مدينة (لوبك) الألمانية عندما يتجمد بين يديها -أحيانا- بحر الشمال،
يومها قال لي سوداني التقيته في تلك الأصقاع وهو يطبق بيسراه على عنق زجاجة فودكا مجلوبة من روسيا:
– يازول ربنا قال في الخمرة دي انو فيها منافع للناس، فكدي أخد ليك كاس وشوف لو تاني جاك سَقَط هههة، فاستعصمت بديني وقلت في نفسي:
ألا ليت لي ب(زلابية أبو حمد) التي ترُمُّ العضم، تجلس إلى ست الشاي القابعة من خلف كثبان رمال محطة أبو حمد فترى بوخ الزلابية ال(من نارا)، ومفلطحة كما يجب، تخالط أبخرة كفتيرة الشاي المشدودة على أثافِ من الضانقيل، فيقتحمك الدفئ مع أول رشفة شاي وأول زلابياية قبل أن تشرع في التهام العشرات منها مع شاي اللبن المقنن الذي دونه أسكت كب اللّت أهلنا في نواحي كريمي، وكم ل(قطر كريمي الكان مليان لي عينو ديمي) بصماته في الوجدان وشواهده في الذاكرة!
قبل بضع أعوام قُدِّر لي أن أمثل الشركة التي أعمل فيها هنا في السعودية خلال فعاليات ورشة عمل ضخمة للتحضير -بل الشروع- في إنشاء شبكة للخطوط الحديدية تغطي كل أرجاء المملكة، وقد خرجت من هذه الورشة مبهورا بالفوائد الكثيرة والمثيرة التي يمكن لأيما دولة جنيها عندما تصبح السكة الحديد الوسيلة الأعلى كعبا في النقل بكل أشكاله فيها، إن كان خلال المدن أو بينها، واليكم هذا المثال الذي يدل على أقل الفوائد التي ذكرت خلال تلك الورشة:
من حيث التكلفة المادية لنقل طرد بريدي بين مدينة وأخرى فإن المقارنة تقول بأن النسبة هي كالآتي:
عُشر القيمة (مقارنة بين السكة الحديد والطيران)!.
ربع القيمة (مقارنة بين السكة الحديد والسيارات)!.
سدس القيمة (مقارنة بين السكة الحديد والسفن)!.
ولعل الذي جعلني أتوقف كثيرا تقرير من وزارة البيئة يتحدث عن التلوث البيئي الذي تحدثه السيارات على الأجواء في المدن، لا يكاد المرء الاّ أن يضع كلتا يديه على رأسه مذهولا بالأرقام الصادمة للتلوث الناتج من عوادم السيارات!
ولقد دشنت دولة الامارات العربية المتحدة التي -من قبل- شبكة قطارات بديعة تربط جزءا كبيرا من إمارة دبي، حيث اثبتت نتائج القياسات البيئية انخفاض نسبة التلوث في دولة الامارات العربية من غاز أول أوكسيد الكربون وأكاسيد الكبريت إلى أقل من (10ppm) فقط بعد أن كانت تصل إلى اضعاف هذا الرقم من قبل…
ولعل ولعي بالقطار جعلني أتخيره أينما يممتُ خلال تسفار لي كثير إلى دول عديدة، ومافتئ القطار الوسيلة الأحب لي خلال تنقلي بين مدن أوربا وأمريكا، بل حتى بين دولها، ولن أنسَ رحلتي من لندن إلى باريس من خلال نفق المانش، ومن باريس جنوبا إلى مدينة نيس، كل ذلك كان عن طريق القطار، وكذلك اعتدت السفر فيه من مدينة فرانكفورت إلى أقاصي شمال ألمانيا إلى مدينة (لوبك) على قطارٍ لهم سريع يسمونه ال(I.C.E) وفي مدينة هامبورق انتقلت إلى قطار آخر اخذني إلى أقصى شمال هولندا لمدينة (خورونيقان) التي يعيش فيها شقيقي الأكبر حاتم عسوم،
ومنها كذلك إلى مدينة (مدل بيرق) في الشرق لزيارة شركة تصنع اجهزة الفصل الكروماتوقرافي تسمى (Chrompack)، مبناها يربض على مرتفع تكسوه ملاءة من الورود الملونة البديعة، والتقتني في مدخل الشركة حسناء هولندية ممشوقة وفارعة، انحنت لي مرحبة وقالت (خدو مداخ)…
ثم كانت عودتي أيضاً بالقطار إلى مطار (أشخبول) في أمستردام، حيث امتطيت طائرة الKLM لأعود أدراجي إلى مكان عملي في السعودية…
ولكن يبقى للقطار الآيرلندي طعمه وألقِهِ برغم علو كعب الICE عليه…
ففي الخاطر احدى رحلاتي على هذا القطار الذي ينطلق من دبلن العاصمة الى بغيتي وهي مدينة شانون الأنيقة…
وللقطار الأمريكي عوالمه كذلك، وإن نسيت فلا أخالني أنسَ محطة قطارات (فلا ديلفيا) أو (فيلي) كما يسميها أهلها، وانها بالفعل لأكبر محطة للقطارات في العالم،
وصلتها وقد كنت في طريقي من مدينة (بتسبيرق) في ولاية (بنسلفانيا)، بعيد اكمالي لفترة تدريبية في شركتين تتواجد مقراتهما في مدينة صغيرة بجوار بتسبيرق اسمها Bethlehem في ذات الولاية، نعم اسمها (بيت لحم)!
وقد انتابني ذات الاستغراب الذي أخاله انتاب كل قارئ لاسمها دهشة بوجود مدينة بهذا الاسم في الولايات المتحدة الأمريكية!
واسم الشركة الأولى هو (GOW MAC) وهي تعمل أيضا في مجال تصنيع أجهزة الفصل الكروماتوقرافي، والشركة الثانية اسمها شركة (BACHARACH) وتنطق الCH كافا، وهذه الشركة تعمل في مجال تصنيع أجهزة فحص الغازات (gas detection systems & monitors)…
ولعمري إن محطة فيلادلفيا هذه ليست محطة قطار فقط، انما بلد بي حالا!
كنت في طريقي إلى مدينة آرلنقتون في ولاية فرجينيا لزيارة نسيبي أحمد حسن عمر البدوي، وهو من أبناء بورتسودان…
سحبت حقيبتي خلفي وترجلت من القطار الأنيق الذي أتى بي من ولاية بنسلفانيا، فإذا بالدنيا كلها أمامي!
فالمحطة كلها تتمدد تحت سقف مبنى ضخم لم أر مبنى في ضخامته وسعته من قبل!
وقد كان ينبغي لي قطع مسافة طويلة سيرا على الأقدام وسط مئات البشر المتراصين على المقاعد، وبعضهم وقوف، لكي أصل الى مكتب الحجز باحثا عن موقع القطار الذاهب إلى مدينة آرلنقتون في ولاية فرجينيا من بين مئات القطارات الرابضة هناك، وهنا ينبغي لي أن أكتب عن ملاحظة لم تزل تتبدى لي كلما تذكرت أمريكا،
يالهذا (اللوتري) الذي فعل بتلك البلاد الأفاعيل!
تلتفت يمنة ويسرى فيقع بصرك على جل تقاطيع أعراق الدنيا ان لم تكن كلها تحت سقف تلك المحطة، وإذا بالناس يتحدثون بكل لغات الدنيا، لم أجد وصفا لهم من حولي إلا ب(الطير في الباقير)، فلا أثر للغة الانجليزية على الاطلاق!
ولا أدري لماذا لم ينصهر كل هؤلاء الناس في بوتقة الوطن الأمريكي؟!
والذي يحار له المرء أنهم ليسوا كلهم قادمون جدد إلى أمريكا، فالكثير منهم علمت بعد ذلك بأنهم ولدوا ونشأوا هناك، لكن يظل الكثير متجذرا لأصله وعرقه، وقد تبين لي ذلك أكثر عندما زرت المطاعم الصينية والآسيوية وكذلك مطاعم لاثنيات افريقية في فرجينيا وفي واشنطن وفي نيويورك وحتى في مانهاتن الراقية!
تلج الى المطعم فتحسب بأنك لست في أمريكا الناطقة بالإنجليزية!…
ولعلي أذكر هنا مدير التسويق لاحدى الشركات التي ذكرتها وهو تايواني الأصل وقد قال لي بأنه مولود في أمريكا، أقسم لكم بأن لغتي الانجليزية لأفضل من لغته الانجليزية بكثييييير!
أمريكا هذه تَحمِل بذور فنائها في داخلها، السبب في ذلك عدم انصهار كل تلك الأعراق والقوميات في بوتقة الوطن الجديد، وتشبث الناس بأصولهم لغة وثقافة وعقائد وتراثا ومظاهر اجتماعية، ولعل الحديث عن وقائع التجسس التي قام بها أمريكان من أصل صيني، وياباني، وروسي قبل سنوات لصالح (بلد الجذور) لدليل دامغ على ذلك…
وصلت الى مدينة آرلنقتون الصغيرة، انها مدينة تربض على مرتفع يطل على واشنطن العاصمة، وصلتها خلال أمسية جميلة فبدت لي سماء أمريكا من الزرقة والصفاء بمكان، وكأن السماء قد غُسلت لتوها بالماء المقطر، و(بُخَّ) عليها ملمّع الزجاج ثم (تُمِّرَت تتميرا)…
فسألت نفسي:
هل هذه أمريكا التي يقال عنها بأنها أكبر الملوثين للعالم؟!
ويجدر بي أن أعرج أيضا إلى القطار الماليزي الذي أحسبه من أكثر القطارات (أناقة) في العالم، والسبب في ذلك أنهم بدأوا من حيث انتهى الآخرون، تستطيع أن تستقل القطار من داخل سقف مطار كوالالمبور كم هو فخيم، فينطلق بك ويطوف بكل أرجاء المدينة وبتروجايا العاصمة السياسية مضافاً اليها مدن أخرى، ولكم أدهشني كون هذا القطار يسير على (قضيب واحد فقط)!
ثم ان محطاته عبارة عن طابق من طوابق عمائر سكنية عادية، فتصعد إلى المحطة من خلال سلالم كهربائية، تجد في مولجها ماكينة التذاكر كما هو الحال في مداخل القطارات في كل المدن الغربية، ويسير القطار على أعمدة خرسانية شاهقة تدع المجال فسيحا على الأرض لأيما حراك للناس والمركبات، وقد كانت تنقلاتي في ماليزيا عن طريق هذا القطار الأنيق، حيث ذهبت إلى سوق (CHINA TOWN)، وهو سوق شعبي كبير مكتظ بالبضائع والصينية منها الأغلب، ولعله قد أخذ اسمه بسب العرقية الصينية التي تكاد تسيطر على كل أرجائه،
وقد أعلمني صديق يعمل محاضرا في احدى جامعاتهم بأن السبب في سعي ماليزيا لاستجلاب العرقية الصينية وكذلك الهندية وتوطينهم لكون سكان البلد من عرقية الملايو ليسوا (أهل شدايد) ويضاف إلى ذلك أميّة واصرار للعيش في القرى دون المدن الجديدة التي شرعوا في بنائها وكانت للدكتور مهاتير محمد بصماته في ذلك، فأصبحت الأعراق الجديدة عمادا حقيقيا لتنمية اقتصادية مشهودة في تلك الدولة، وماليزيا بلد سياحي من الطراز الفريد، فلكم دُهشت وأنا أزور الملاهي المائية البديعة في مدينة ألعاب (صنواي لاجون) الضخمة، أما مرتفعات (كاميرون هايلاند) التي تُزرع فيها الفراولة فهي لعمري تجسد أجمل ما على الأرض من جمال، تقف على تلة فيها وتنظر إلى الأرض المترامية فتجدها منبسطة بالخضرة الموشاة بحبات الفراولة الفاقعة الحمرة، وكأنها (أزرار) تجمل ثوب فتاة، ومن دون ذلك شلالات روبنسون، وشلال اسكندر، وشلال باريت الأخّاذة، تَهَب المشهد ذَوبا من ألق، فتحار أأنت في الدنيا أم قد انتقلت الى دنياوات أخر!، واتصلت علاقتي بماليزيا حيث اتيت بابني الأكبر في العام التالي ليدرس الجامعة فيها.
(لعلي أواصل ان شاء الله).
صحيفة الانتباهة