ماذا بين ثنايا التاريخ الشفهي للحرب في السودان؟

يرجع مؤرخون بداية جمع التاريخ الشفهي إلى المؤرخ اليوناني هيرودوت بن ليكسيس الذي ولد وعاش في القرن الخامس قبل الميلاد، باتخاذه كوسيلة لتجميع تاريخه اليوناني الباكر.

والتاريخ الشفهي معروف عالمياً لارتباطه بتاريخ الحروب العالمية والإبادات العنصرية وما تبعها من أحداث وتجارب وآثار مؤلمة دونت وحفظت في أراشيف صوتية أو سجلات مكتوبة، وليكون التوثيق كاملاً فإنه لا يقتصر على أخذه من الضحايا فقط، وإنما تجرى مقابلات مسجلة مع قدامى المحاربين وأفراد أسرهم، واكتسب متحف الحرب الإمبراطوري في بريطانيا الذي يختص بتسجيل المجهود الحربي المدني والعسكري والدور الذي قامت بها بريطانيا أثناء الحرب العالمية الأولى شهرة واسعة، وهناك أيضاً مشروع تاريخ قدامى المحاربين بمكتبة الكونغرس الأميركي كإحياء ذكرى حرب فيتنام وغيرها، وكذلك متاحف في مناطق أخرى من العالم شهدت حروباً تاريخية وكان لها دور فيها سواء أكانت فاعلة أم ضحية. ومن أبرز النماذج ما تميزت به تجربة جنوب أفريقيا إبان ظهور حركات المقاومة ضد الفصل العنصري خلال سبعينيات القرن الماضي بظهور مشاريع كبيرة للتوثيق الشفهي قامت بها جهات أكاديمية وسياسية وحكومية، مما خلق منها نموذجاً يحتذى في معالجة آثار الآلام النفسية والمعنوية للفصل العنصري.

أما في السودان فتاريخ الحروب يتسم بأنه شفهي من الشاهد الأساس إلى غيره وهكذا، إذ تمر العملية بعدد من الرواة والمستمعين إلى أن تصل إلى تدوينها أخيراً، وما نجح في الوصول إلى المعنيين لم يدون إلا القليل منه بصورة علمية في وثائق ومكتبات معروفة، وأهمها “دار الوثائق القومية” بالخرطوم، أو لأغراض البحوث الجامعية ودراسات منظمات المجتمع المدني التي اهتمت بشكل كثيف بالقضايا الإنسانية مثل جرائم العنف والاغتصاب كإحدى أدوات الحرب، بنشر تقارير عامة عنها وأحياناً من دون تفاصيل دقيقة.

يقظة ضمير

يقول الباحث التاريخي محمد خليفة إن “جمع وتدوين التراث الشفهي يكتسب أهمية خاصة في السودان، لأن المجتمع السوداني يعتمد كثيراً على الروايات والمنقولات في سرد الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا يقتصر الأمر فقط على التاريخ وإنما حتى الأحداث المعاصرة”.

ويضيف، “هذا المجهود لا يقوم به الباحثون والمؤرخون والإعلاميون وحدهم، وإنما هو نهج ناتج من سلوك اجتماعي وعليه تختلف وسائل تجميعه ما بين اتباع المنهج العملي الدقيق وبين السرد الروائي من دون منهج وشروط للفحص الدقيق”.

ويلفت إلى أن “هناك أدوات عدة لكتابة التاريخ الشفهي ومنها المقابلات الأولية لفحص الرواة بشكل عام ومعرفة المداخل التي يمكن الحصول من خلالها على أكبر قدر من المعلومات منهم وتهيئتهم لذلك، ثم المقابلات الرئيسة وهي أكثر عمقاً وتستغرق وقتاً وتتجاوز المعلومات إلى البيانات والقرائن والمشاهدات والملاحظات والأدلة المادية”.

ويشير الباحث التاريخي إلى أن “هذا المنهج اتبع في تدوين التاريخ الشفهي لإحياء ذكرى اندلاع الحرب في دارفور، وعلى الرغم من أنه مجهود مشتت وغير منظم وتعمل عليه كل جهة بمفردها، إلا أنه نجح في تقديم قصص الضحايا بصورة أوضح وإبراز دور نظام الرئيس السابق عمر البشير وضلوعه فيها والاتهامات الموجهة للميليشيات التابعة له وللعمل العسكري الذي تقوم به الحركات المسلحة، وتقديم بعض المتهمين إلى المحكمة الجنائية الدولية وتأثير تلك الأحداث على مواطني دارفور مادياً ومعنوياً”.

ويتابع خليفة، “قامت فكرة التاريخ الشفهي من جمع هذه الروايات على تقديم تحليل متعمق لقصص الناجين من الحرب مع مراعاة شكل ومحتوى هذه القصص، إذ من الصعب التأكد التام من صحتها إلا بوجود قرائن أو إصابات، إضافة إلى تأطيرها الاجتماعي والثقافي”.

ولاحظ خليفة أن “تحليل الروايات ترافقها عادة ظلال سياسية من واقع توجه الباحثين، وقلما نجد تحليلاً وتفسيراً لتجارب الميليشيات والحركات المسلحة نابع من جذورها الإثنية ومن منظور تاريخي، وتوفر ذلك يساعد في تحليل اعترافات المتورطين في الحروب بعد تجارب مشاركتهم فيها، ولا يكون الحصول عليها إلا بيقظة ضمير أو أن تروى عنهم، ولا يزال بعيداً من التجربة السودانية الوصول إلى تحليل منظور الحرب كما هو متبع دولياً”.

شاهد على الحرب

من جهة أخرى تقول الناشطة في منظمات المجتمع المدني تهاني محمد طه إن “هناك طريقة أكثر جدوى لجمع التاريخ الشفهي، وهي مشاهدة المحقق سواء أكان باحثاً أم صحافياً في فترة ما من حياته العملية في منطقة الحرب بأن يكون نفسه شاهداً عليها، ولكن هذه خطوة متطورة نوعاً ما، إذ لم تحظ الحرب في دارفور بهذه القيمة لأسباب كثيرة منها عدم وجود ضمانات بسلامة الباحث أو الصحافي من الجهة التي يعمل لها، وعدم وجود تأمين طبي له أو على حياته، وقد يتحول نفسه إلى ضحية ويتعرض لأخطار كبيرة أقلها الصدمة النفسية، ولم يتم ذلك إلا نادراً وبمجهود شخصي ويكون محاطاً بمحاذير النشر، وقد تعرضت صحف في ظل النظام السابق للإيقاف والمحاكمات والعقاب وتشريد موظفيها بسبب نشر أخبار منقولة من مناطق الحرب تدين النظام”.

وتوضح طه أن “التنوع القبلي وتعدد الإثنيات في السودان عموماً وإقليم دارفور خصوصاً يجعلان من تجميع التاريخ الشفهي مفتاحاً لمعالجات أنثروبولوجية تغوص في تاريخ القبائل والإثنيات وارتباطها ببعضها أو انحدارها من جذور داخلية أو خارجية، وهذا من شأنه أن يفتح المجال لفهم أوسع لطبيعة الصراع الذي يبدو أن جذوره الراسخة منذ قيام الدولة السودانية الحديثة أعمق من دور الحكومات الوطنية في تأجيجه واستغلال أجواء الحرب لمصالحها الخاصة”.

استراتيجية متعمدة

وحرب دارفور باعتبارها حرباً مستمرة لم تكتمل رواياتها بعد لتحال إلى دار الوثائق، وما تم من تدوين شفهي يرتبط بفترة الحرب في النظام السابق، خصوصاً أن اندلاعها عام 2003 كان في خضم عنفوان ممارسات النظام.

ومن أبرز التقارير الشفهية ما نشرته صحيفة “سودانايل” الإلكترونية وهو نص “تقرير لجنة التحقيق الدولية في شأن دارفور المقدم إلى الأمين العام للأمم المتحدة عام 2009 لتقديمه لمجلس الأمن الدولي”، ووردت فيه تفاصيل أحداث كثيرة منها أن “اللجنة أجرت مقابلات مع شهود عيان تتعلق باغتصاب ثلاث نساء أثناء فرارهن من الهجوم على قريتهن المسماة ’كالوكيتنغ‘ بجنوب دارفور في مارس (آذار) 2004، وقد قتلت إحداهن أثناء الحادثة”.

كما أورد التقرير أن “اللجنة أجرت أيضاً مقابلات مع شاهدات عيان لحادثة اغتصاب أخرى تتعلق بمجموعات من النساء كن عائدات في المساء من مدينة الفاشر إلى مخيم زمزم شمال دارفور، إذ ذهبن لبيع الحطب في سوق الفاشر في أكتوبر (تشرين الأول) 2004”.

كما حصلت اللجنة على “معلومات موثقة خلال مقابلة أجريت مع أختين اغتصبتا بينما كانتا تقطعان الحطب في غريري خارج مخيم قرندنق للمشردين في غرب دارفور في سبتمبر(أيلول) 2004”.

ومن هذه النماذج التي لا تعد الوحيدة، ولا تغطي كل مناطق الحرب في دارفور، توصل التقرير إلى أن “الاغتصاب والعنف الجنسي استخدما من جانب الميليشيات المسلحة التي استعان بها نظام البشير كاستراتيجية متعمدة بغرض تحقيق أهداف معينة، بما في ذلك ترويع السكان وإحكام السيطرة على حركة المشردين داخلياً وإطالة أمد تشردهم، وتبرهن على أن الاغتصاب استخدم كوسيلة لكسر معنويات السكان وإذلالهم”.

موروث شعبي

أما الحرب الأهلية في جنوب السودان فقد وثقت في كتب سياسيين سودانيين مثل منصور خالد في كتابيه “جنوب السودان في المخيلة العربية: الصورة الزائفة والقمع التاريخي” و”انفصال جنوب السودان: زلزال الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”، وكتاب فرانسيس دينق “طائر الشؤم”، وكتاب صحافيين مثل خالد التيجاني في كتابه “الخيار صفر”، وكتاب عبدالماجد بوب “جنوب السودان: جدل الوحدة والانفصال” وكثيرون غيرهم، وهي من نوع الكتب السياسية النخبوية العميقة والتي لم تعتمد على التوثيق الشفهي.

ونظراً إلى طبيعة إقليم جنوب السودان غير المستقرة بفعل الحرب، فإنه لم يوثق تاريخه وموروثه الاجتماعي كتابة، مما جعل اللجوء إلى التاريخ الشفهي وسيلة للاستدلال على التاريخ السياسي والاجتماعي، فظهرت مبادرات لتوثيقه قبل الانفصال وبعد تحوله إلى دولة مستقلة.
وأشار الكاتب الصحافي من “دولة جنوب السودان” أتيم سايمون في كتابه “كودوال: جنوب السودان الحال والمآل” إلى أهمية التاريخ الشفهي لدولة جنوب السودان، وذكر أن “ارتباط أسماء الأحياء السكنية والأسواق في مدينة جوبا تختزن حكاية الموروث الشعبي لجنوب السودان” الذي ظل في حال حرب لأكثر من نصف قرن مع السودان الشمالي، خصوصاً أنها مكتوبة بعربي جوبا.

ويضيف أن هذه الأسماء مثل حي “أطلع بره” و”سوق رجال مافي” وغيرها ذات رمزية معينة ولم تطلق عبثاً، ويتابع أن “سماع تاريخ جنوب السودان والتسجيل مع كبار السن من مختلف القبائل هناك ومن الذين عاصروا الزعماء الجنوبيين يعطي قيمة توثيقية خاصة من وجهة نظر أبنائه”.

وذكر سايمون أيضاً في مقالة له بهذا الخصوص أن “الكاتب فيكتور كيري واني دون ووثق أنماط الحياة الاجتماعية الشعبية وجمع أشكال التعبير الشفهي والثقافة المادية لمجتمع ’قبيلة المادي‘ في جنوب السودان، خصوصاً كتابه ’الحكايات الشعبية عند المادي بجنوب السودان‘ الذي جمع فيه حوالى 50 من الحكايات والأساطير المتداولة عند المجموعة”.

واعتمد كيري في مادة الكتاب الأساس على رواة وإخباريين كانوا موجودين بالعاصمة السودانية الخرطوم وبعضهم بمدينة جوبا عاصمة دولة جنوب السودان.

سلطة معنوية

وعلى الرغم من أن تسجيل التاريخ الشفهي للمجتمعات في خضم الحروب مثل حرب دارفور والحرب الأهلية في جنوب السودان وتغطية تلك الفترة التي كان فيها الإقليم جزءاً من السودان، وأنه يساعد في رصد أهم أحداث الحرب وآثارها ويعكس من جهة أخرى حياة القبائل والحكايات الشعبية ذات الصلة والصراعات التاريخية ودورها في تأجيج الحرب خلال العقود الأخيرة وتحليل نتائجها، إلا أن هناك تحديات تعوق تلبية هذه الأهداف وتحقيقها على الوجه المطلوب، وأبرز تلك التحديات تتمثل في أن المجتمع السوداني خصوصاً في مناطق الحروب مجتمع إثني تشكل القبيلة فيه سلطة معنوية تمارسها على الفرد، مما يؤثر في حيادية سرده للأحداث فتتلون روايته بحسب انتمائه الإثني، ويستلزم ذلك تنقية الروايات من هذه التأثيرات.

مني عبدالفتاح
إندبندنت عربية

Exit mobile version