زرتُ القاهرة الأسبوع الماضي، والتقيت ببعض المسؤولين عن الجالية السودانية بمصر، صدمتني أرقام مخيفة تكشف إلى أي مدى وصلت الأزمة السودانية؛ أكثر من 4 ملايين سوداني يلوذون بـ(مصر المُأَمّنَة) على اسم القصيدة الشهيرة للشيخ البرعي بالسودان، ليسوا مجرد سياح عابرين، فالغالبية العظمى أقرب إلى الهجرة الدائمة تصحبهم أسرهم والأبناء انخرطوا في مسارات التعليم من أدناها إلى أعلاها.
حوالي 22 ألف طالب سوداني بالجامعات المصرية الحكومية يدفعون الرسوم ذاتها التي يدفعها الطالب المصري، مفتوحة لهم أبواب كل الكليات بلا استثناء، وأكثر من 110 مدارس سودانية لاستيعاب الأرقام المتزايدة من التلاميذ الذين يفضلون الالتزام بالمنهج والمقررات الدراسية السودانية، والعام الماضي جلس لامتحان الشهادة السودانية أكثر من 4 آلاف طالب سوداني بمصر.
عندما تجاوز الآلاف منهم مدة الإقامة القانونية، وتراكمت عليهم رسوم الغرامات النظامية، أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي قرارا بإعفائهم منها وتوفيق أوضاعهم ليجبر خاطر الذين ضُرِبت عليهم الذِلة والمَسكنة سنوات لا هم مقيمون ولا هم يستطيعون العودة إلى وطنهم.
كل هذه الأرقام لا تشمل المرضى السودانيين الذين صارت مصر وجهتهم المفضلة، والشباب الحالمين بالعبور إلى أوروبا يقصدون قوارب الموت في البحر الأبيض المتوسط ويدفع الفرد الواحد منهم ألفي دولار للمهربين فيكدسونهم في قوارب تقدمهم لقمة سائغة لأسماك البحر.
ملايين السودانيين الذين لاذوا بأرض الكنانة ليسوا كلهم فقراء أو معوزين يبحثون عن لقمة العيش الكريم حيثما وجدت، فكثير منهم أثرياء حد الترف، فالهجرة إلى مصر لم تعد مجرد هروب من وضع اقتصادي بائس في السودان، بل بحثا عن حياة تتوفر فيها معايير الكرامة.
حوالي 10 طائرات يوميا من الخرطوم إلى القاهرة ليس فيها مقعد شاغر، وضعفها من الحافلات عبر الطريق البري تجعل أرقام الهجرة متغيرة على رأس الساعة، ولا أحد يعلم مآلات السيل المندفع في موسم الهجرة إلى الشمال.
بعبارة مختصرة؛ مصر أصبحت دولة لجوء لملايين السودانيين، تغدق عليهم بالإقامة السهلة والتعليم والعلاج والسياحة، بل حتى الأمان للهاربين من جحيم الخلافات السياسية بالسودان.
هذه الهجرة الكاسحة، ربما ترجح كفة ميزان العلاقات الثنائية بين البلدين بأواصر شعبية أقوى، لكنها تعكس وجها آخر للأزمة السودانية يكشف إلى أي مدى ارتفعت مناسيب اليأس من إصلاح الأوضاع، رغم الحديث المستمر عن موارد السودان الطبيعية وخيراته المكتنزة و(القناطير المقنطرة من الذهب) والخضرة والماء والفأل الحسن.
الأزمة السياسية في السودان حاليا شلت الدولة تماما، وتعطلت غالبية المصانع والمشروعات، حتى الشركات الصغرى تيبست مثل أوراق الشجر في موسم الجفاف، ولكن المصيبة الأعظم أن لا أفق منظورا للخروج من النفق.
يتفق السودانيون أن بلادهم بلغت ذرى تقدمها المدني والحضاري في العهد الذي كانت فيه تحت الإدارة البريطانية، وعند انتقال الإدارة للحكم الوطني بدأت مسيرة الانحدار الذي لم يكن محسوسا في سنواته الأولى لكنه اكتسح المجالات كافة وطال ليس المؤسسات وحدها بل نظم العمل ومفاهيم إدارة الدولة خاصة المتعلقة بالخدمة المدنية..
ووصل التدهور حاليا مبلغا خطيرا للغاية بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، ولم يعد هناك متسع من الوقت إلا للحلول التي تخرج البلاد من النفق ثم تستديم الاستقرار والنمو.
صحيح أن هناك الآن مواكب وتظاهرات في الشوارع تطالب بالحكم المدني، لكن الحكم المدني ليس مجرد ”تعويذة“ مقدسة لإخراج البلاد من الضلال إلى النور، فقد حُكم السودان مدنيا بل حزبيا أكثر من مرة، كلها ارتدت للوقوع تارة أخرى في براثن الانقلابات والدكتاتورية.
ويُهَوّن البعض من تفسير هذه الحالة بالقول إن السودان طوال 66 عاما بعد نيله الاستقلال حكمته أربعة عهود مدنية حزبية تمتعت بـ 12 سنة فقط من الحكم بينما استحوذ العسكريون على 54 سنة من السلطة المطلقة.. وهذا صحيح من حيث الحساب العددي لكنه تضليل متعمد من حيث التفسير والتسبيب.
كل الانقلابات العسكرية في التاريخ السوداني جاءت بفعل فاعل سياسي يحاول قلب الطاولة الديموقراطية على بقية الملعب السياسي.
الانقلاب الأول بقيادة الجنرال إبراهيم عبود في نوفمبر 1958 كان طلبا رسميا تقدم به رئيس الوزراء (المدني) السيد عبدالله خليل للقيادة العسكرية لاستلام السلطة على خلفية مخاوفه من الإطاحة به ديموقراطيا عبر البرلمان.
الانقلاب الثاني للعقيد جعفر محمد نميري في مايو 1969 جاء محمولا على أكتاف الحزب الشيوعي والقوميين العرب، ثم خرج الحزب الشيوعي بقيادة زعيمه السيد عبد الخالق محجوب على النظام وحاول الانقلاب على الانقلاب في يوليو 1971 بقيادة الرائد هاشم العطا، وانتهت التراجيديا بالمذابح المعروفة.
في يونيو 1989 انقلب العميد عمر البشير على النظام الديموقراطي محمولا على أكتاف ”الجبهة الإسلامية القومية“، وهي حزب سياسي كان في كابينة الحكم وعندما أخرج منها دَبّر الانقلاب.
في أبريل 1990 حاول حزب البعث العربي الاشتراكي الانقلاب على انقلاب البشير ولكنه فشل فأدى ذلك إلى إعدام 28 ضابطا رفيعا بالقوات المسلحة السودانية بعد محاكمة صورية سريعة.
كل الانقلابات العسكرية في السودان خلفها حزب سياسي، فهي ترتدي الزي العسكري شكلا وتحمل العلامة السياسية للحزب في محتواها الفكري والسياسي.
ولا يمكن التعويل على إصلاح المسلك السياسي للأحزاب في القريب العاجل، فهي لا تزال على ضلالها القديم غير قادرة على نقد الذات ومراجعة سيرتها ومسيرتها فتعيد إنتاج الأخطاء القديمة.
وطالما أن الشعب السوداني هو الذي يحترق بنار الأوضاع السياسية التي تضرب عميقا في استقراره الأسري، فالأجدر البحث عن حل جذري يفصل أقدار الشعب السوداني عن أقدار السياسة والساسة.
إعادة هيكلة الدولة السودانية بحيث لا ترتهن للنظام السياسي الحاكم مهما كان رشيدا أو معيبا، هذا ليس اختراعا جديدا بل هو ما تفعله كل الدول المستقرة والمتقدمة، تجعل ما للسياسة للسياسة وما للإدارة للإدارة، والأمثلة لهذا المسلك السياسي السوداني الممعن في التغول على صلاحيات الدولة التنفيذية كثيرة، لكني هنا أقدم واحدا منها.
ما إن يتولى وزير جديد منصبه، عبر تعديل وزاري أو تغيير كامل في النظام الحاكم، إلا ويبدأ التاريخ منه وينتهي بخروجه من الوزارة، يوقف المشروعات التي بدأها سلفه، ويبتدر أخرى، ريثما يوقفها من يأتي بعده.. آلاف المشروعات دُفعت فيها أموال طائلة تقف أطلالا قبل افتتاحها ضحية التغول السياسي على الشأن الإداري.
عصر الدجاج الأبيض
هل سننتهي بتربية الماعز في ظل الانهيار الاقتصادي العالمي؟
علاج هذه المشكلة في تشريعات تمنع النظم السياسية من التغول على أسوار الخدمة المدنية، فيصبح الملعب السياسي محصورا في النطاق السيادي المعبر عن ”السلطة“ لا ”الحكومة“.
بغير هذا لن يعود المهاجرون، بل سيتبعهم آخرون.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز