لم يكن الإنقلاب الذي أعلنه الفريق عبد الفتاح البرهان ، هو انقلاب على السلطة المدنية ، وتعدي على حرية الشعب السوداني وسلب إرادته وقتل أحلامه وأمانيه للعيش في وطن معافى من كل الامراض السياسية والمجتمعية والاقتصادية، هذا الشعب الذي كان يحلم بتغيير حقيقي لم تكن أحلامه ضيقة الى الحد الذي يمكن أن تموت فيه بذهاب الحاكم، كان ينشد تغييراً أعمق يغوص في الأغوار ويقتلع كل جذور الفساد الذي ضرب مؤسسات الخدمة المدنية ونخر في عظم الإقتصاد. لم ينته الأمر الذي كان يريده الشعب عندما خرج إبنعوف وبشر الناس بالتحفظ على رأس الدولة ، وقتها لم يكف الشارع عن الهتاف وطالب بالتحفظ على ابنعوف أيضاً، واستجاب الرجل الذي سجل موقفاً وطنياً يشكر عليه ،واستمر الشارع بوعيه يريد المزيد حتى يومنا هذا ، لماذا لأنه يعلم أن العلة والداء الذي اصاب جسد هذا الوطن لا يحتاج الى جراحة تجميلية قدر ما انه يحتاج عملية استئصال كاملة. ويباغتك سؤال متعمد او يرميه عليك صاحبه دون قصد إبان فترة حكومة حمدوك عندما كان الشارع يواصل مواكبه التي وصلت الى مجلس الوزراء تطالب حمدوك بتحقيق اهداف الثورة، يأتيك السؤال، (هو انتو طالعين ليه مش قلتو عايزين مدنية طيب الحكومة دي ما مدنية). فالبعض يجهل ماذا يريد الشارع لكن الكثير كان يعلم ان ماحدث لن يشبع رغبة الشارع التواق لتغيير جذري يدفعه لتقديم روحه ثمناً لشراء هذا المطلب. لذلك لم يكن الانقلاب المعلن هو إجراء متهور لنسف المدنية، كان شئ أكبر ، أعاد وعدّل فيه البرهان الطاولة التي ازاحتها الثورة ، وحرص أن تكون عليها ذات الاصناف من ظلم وفساد وفشل وتدهور اقتصادي وانفلات أمني ، لكن أسوأ ماخطط له الانقلاب والذي يجب ان يحاسب عليه كل أفراد المجلس الانقلابي طال عمر حكمهم او قصر، هو انهم سمحوا للفساد الذي تركه المخلوع ان ينتعش من جديد تحت رعايتهم وبعلمهم وموافقتهم، فما يعانيه الوطن الآن هو أشبه بانتكاسة مريض هجمت عليه الاعراض في المرة الثانية أكثر من الأولى وكادت ان تزهق روحه. فالفساد الأخلاقي وغياب الضمير وسط المجتمع شئ وفساد النيابات والقضاء شئ آخر ، فما كشفته “الجريدة” عن أن أحد وكلاء النيابة وعضو بلجنة التحقيق في قضية شركة تاركو للطيران طلب مبلغ (مليون دولار) لقتل ملف القضية إلى الأبد هو عار على النيابة لن تغسله محاسبة وكيل النيابة او رفع الحصانة عنه ، لأن وكيل النيابة هذا قطعاً ليس وحده ، فالسجال بين وكلاء النيابة حسب الخبر في منصات التواصل الاجتماعي، كان يدعو ( لغتغتة الخبر) وحذر بعضهم من أن هذا الخبر إذا تم تداوله سينسف ما تبقى من سمعة للعدالة في السودان. انظروا ماتبقى من سمعة هذه العبارة وحدها تكفي لصياغة (نعي أليم ) ننعي فيه العدالة في السودان التي تعيش على (ربع سمعة) في ظل نظام انقلابي الفساد يطول حتى كباره الذين يجلسون على كرسي السلطة الذين تخصصوا في نهب الموارد وسرقة البلاد سرقة مقننة ومختومة، فهل هو فساد نيابات أم فساد نظام بأكمله. فبدلاً من أن تقوم النيابة بفضحه ومحاسبته ولفظه لتبرئ ساحتها يطلب مسؤول من اعضاء المنصة عدم الخوض والحديث حول قرار النائب في البلاغ )246 لأن الأمر تعدى الأشخاص وطال النيابة كمؤسسة ، ( ياعيني على المؤسسة). فليس غريباً على النيابة أن يكون بينها مرتشي فالبرهان أعاد عدداً من المرتشين واللصوص في نظام المخلوع الى مواقعهم في النيابة وفي كثير من المواقع لذلك هو نفسه لا يهمه سمعة النيابة او غيرها المهم ان يكون جالساً على الحكم ويدير دولة فاسدة سيطفو فسادها على السطح يوما بعد يوم. والبلاغ (٢٤٦) أعود اليه في زاوية في القريب العاجل بعنوان ( الفساد الطائر تاركو اير ٩) لنرى كيف عاد فضل محمد خير الي السودان وتحول بأمر القضاء من متهم لشاكي يريد استعادة تاركو ومعها خمسين مليون دولار بمساعدة نافذين في دولة البرهان الذين يجمعهم به (ملف الذهب والشراكة الخفية)، فالقضاء الذي قدم شهادة البراءة لفضل محمد خير لا شك ان فيه العشرات من الذين يشبهون وكيل النيابة الذي طلب مليون دولار . طيف أخير: خيرك وشرك دين ، سترده لك الحياة يوماً
صحيفةالجريدة