روى الكاتب الفرنسي (فرانسوا رايلي)،قصة رجل اسمه بانورج كان في رحلة بحرية على متن سفينة، وكان على نفس تلك السفينة تاجر الأغنام المدعو (دندونو) ومعه قطيع من الخرفان لغرض بيعها.
كان (دندونو) تاجراً جشعاً لا يعرف معنى الرحمة ووصفه الأديب الكبير (ورابليه) بأنه يمثل أسوأ ما في هذا العصر، وهو غياب الإنسانية.
حدث أن وقع شجارٌ على سطح السفينة بين (بانورج) والتاجر (دندونو)، صمم بانورج على إثر ذلك أن ينتقم من ذلك التاجر الجشع، فقرّر شراء خروف من التاجر بسعر عال وسط سعادة (دندونو) بالصفقة الرابحة واندهاش من على ظهر السفينة من الركاب.
في مشهد غريب، يمسك بانورج بالخروف من قرنيه ويجره إلى طرف السفينة، ثم يدفعه إلى البحر، فما كان من أحد الخرفان إلا أن اتبع خطى الخروف الأول ورمى بنفسه في البحر ليلقى مصيره، ليلحقه الثاني والثالث فالرابع وسط ذهول التاجر وصدمته، ثم اصطفت الخرفان الباقية في طابور مهيب لتمارس دورها في القفز.
جن جنون تاجر الأغنام دندونو وهو يحاول منع القطيع من القفز إلى البحر، ولكن محاولاته كلها باءت بالفشل.
فقد كان إيمان الخرفان بما يفعلونه على قدر من الرسوخ أكبر من أن يقاوم.
وبدافع قوي من الجشع، اندفع دندونو للإمساك بآخر الخرفان الأحياء أملاً في إنقاذه من مصيره المحتوم، إلا أن الخروف المؤمن كان مصراً على الانسياق وراء الخرفان فكان أن سقطا كلاهما في البحر ليموتا معاً غرقاً.
ومن هذه القصة، صار تعبير خرفان بانورج مصطلحاً شائعاً في اللغة الفرنسية، وهو يعني انسياق الجماعة بلا وعي أو عقل أو تفكير او إرادة وراء آراء أو أفعال الآخرين. وثقافة خرفان بانورج تنطبق على الكثيرين من أهل السودان.
والسودان منذ الاستقلال يعيش على هذه العقلية وتمارس هذه الظاهرة في كل مكونات السودان الطائفية على رأي الزعيم والطريقة الصوفية على رأي الشيخ والحزب تقدمي أو يميني على رأي رئيسه، وهكذا عاش أغلب الشعب حياة القطيع، فضاع الوطن، وفي كل الأحوال ديمقراطية أم ثورة أم انقلاب، وصارت الوصاية والأبوية هي التي تُسيطر على المواطن، وعقلية القائد المُلهم ألغت عقول الشعب، وصرنا نعيش حياة القطيع هذه في مجتمعاتنا في المدينة والريف، وهكذا صُودرت عقولنا لصالح قادة معينين وهذه الظاهرة انتشرت حتى في عهد الثورة، حتى الثوار غاب مشروعهم ورغم الضيق في المعاش والانفراط الأمني وتدهور الخدمات، ولكن مازالوا يمارسون سياسة القطيع، حتى الأحزاب التي تقودهم صارت تمارس معهم سياسة القطيع.
إذن قضية الوطن ليس خلافاً فكرياً أو أيديولوجياً، ولكن هي خلافات قائد يفكر بعقليته الشمولية والتسيدية، وإنّه هو الملهم، وإنّ الشعب خُلق ليكون قطيعاً يتلقى ويؤيد دون أن يعمل عقله.
إذن مطلوبٌ أن نؤسس كل مواقفنا على عقولنا، لا التبعية العمياء وتأليه الآخرين.
إعمال العقل مهمٌ، ولكن سياسة القطيع هذه دمرت البلاد وأضرت بالوطن.
نسأل أن نخرج منها إلى رحاب إعمال العقول.
تحياتي،،،
صحيفة الصيحة