فيضانات السودان… الأسوأ لم يأت بعد

قبل أن تجف أوجاع السيول بولايات السودان المنكوبة، وتتمكن من تجاوز الأوضاع الإنسانية المتدنية، التي تعيشها حتى الآن، طرق فيضان النيل الأزرق أبواب العاصمة الخرطوم وكثيراً من المناطق ليضاعف القلق والهموم، ويضعها مجدداً في مرمى خطر الغرق.

الخرطوم باتت على حافة الفيضان بعد بلوغ النيل الأزرق مستوى ارتفاع 16.5 متر، وبدأت المياه بالفعل في التغلغل داخل بعض أحياء جنوب الخرطوم.

حافة الخطر

مع بلوغ مرحلة الفيضان، وزيادة معدلات الأمطار المتوقعة، يصبح كل شيء على حافة الخطر، ويبقى أمل تفاديها في قدرة صمود خزان الروصيرص على استيعاب مزيد من تدفقات المياه بعد عبورها الممر الأوسط لسد النهضة.

هكذا تجد العاصمة السودانية نفسها من جديد أمام قدر مجابهة نيران الأمطار والسيول والفيضانات معاً، وهو ما يصفه متخصصون في المياه بالسيناريو الأسواء لكوارث الغرق.

على صعيد محنة الأمطار والسيول، التي ضربت معظم ولايات السودان وما زالت آثارها تتمدد، ارتفعت حصيلة الخسائر والأضرار البشرية والمادية حتى الخميس 25 أغسطس (آب) 2022، إلى 89 شخصاً من الضحايا الذين فقدو أرواحهم، 19 منهم تحت الأنقاض و67 غرقاً وثلاث بصعق الكهرباء، كما أصيب 37 شخصاً.

وكذلك تأثر بالسيول 50604 منازل، منها 20225 دمرت كلياً، بينما تضرر 30379 منزلاً جزئياً، شملت 115 قرية بمحلية المناقل ولاية الجزيرة وحدها، فضلاً عن عشرات القرى الأخرى بولايات نهر النيل وجنوب وغرب دارفور والنيل الأبيض وسنار وكسلا والقضارف، نتج عنها تشريد عشرات الأسر، إضافة إلى تهدم 137 مرفقاً من المتاجر والمخازن.

ودعا الناطق الرسمي للدفاع المدني، عبد الحليم عبد الرحيم، عقب اجتماع غرفة الطوارئ المركزية، إلى التنسيق والتعاون المشترك بين قطاعات ومؤسسات الدولة المختلفة، بغرض توفير المعونات اللازمة وتوفير معدات إصحاح البيئة والمبيدات، لكل منطقة بحسب احتياجاتها.

تزايد الضحايا والمخاوف

مع تزايد أعداد الضحايا والخسائر تتنامى أيضاً المخاوف من مآلات تمدد المحنة وانتظار الأسوأ المقبل في ظل توقعات بهطول مزيد من الأمطار في معظم ولايات السودان.

وارتفع عدد القرى المتضررة بمحلية المناقل بولاية الجزيرة وسط السودان، حيث تتجسد المحنة والمأساة بكامل وجعها ونزفها الإنساني، من 54 إلى 128 قرية، وانهار فيها أكثر من 4000 منزل وتهدمت 66 مدرسة، وأغرقت السيول 12230 فداناً زراعياً مروياً و102 فدان مطري، بحسب غرفة الطوارئ المحلية.

كما ازدادت أعداد الأسر المشردة، التي تنتشر على امتداد العراء في الروابي الجافة، تستظل بـ”الرواكيب”، “مفردها راكوبة” وهي عبارة عن مظلة من حطب الأشجار مسقوفة ببقايا أقمشة أو مشمعات قديمة، وعيونهم صوب السماء تضرعاً ودعاء، يرعبهم تراكم السحب ويلفحهم هجير الشمس ولا تزال المياه تحاصرهم من كل جانب.

القرى المنكوبة لا تزال غارقة في وحل السيول، التي تلتهم كل يوم مزيداً من المنازل والمباني، التي استسلمت بعد أن تعذر تصريف المياه التي لا تجد حتى الآن منفذاً بسبب امتلاء كل المجاري المائية بالجوار حتى سعتها القصوى ولم يعد هناك مخرج سوى التبخر.

إهمال وغياب رسمي

في تطلعهم إلى المجهول، يشكو مشردو السيول من الإهمال والغياب الرسمي عن متابعة أوضاعهم على المستويين المركزي والمحلي، وشح الخيام والطعام والدواء وانتشار الالتهابات الرئوية وسط الأطفال وبعض الكبار.

علي أبو القاسم، أحد مواطني منطقة الجزيرة الذين فقدوا كل ما يملكون قال إن “أكثر ما يفتقدونه هو مواد الإيواء والغذاء والناموسيات والمعينات الصحية، لأن معظم الأسر في العراء يستظلون بأي شيء متاح وتهددهم الأمطار المتوقعة في أي لحظة”.

وأشار إلى أن انقطاع الطرق حبس المعونات عن المنكوبين عند منطقة عبود الموحلة، إذ لا مجال للوصول إلا عبر الجو أو التراكتورات الزراعية، مثمناً دور الخيرين من أبناء المنطقة الذين اجتهدوا في توصيل بعض الإعانات والخيام إليهم.

اجتياح جديد

مع تدهور الموقف بولايتي الجزيرة ونهر النيل يوماً بعد يوم، تتمدد مخاطر السيول وتجدد اجتياحها عدداً آخر من القرى على ضفتي النيل بمنطقة الشريك بمحلية أبو حمد، في مناطق ندي الأراك وسبنس والغريب وسوق الأربعاء.

وتفقد الوالي المكلف محمد البدوي أبو قرون المنكوبين، ووجه باتخاذ التدابير والتحوطات المطلوبة وتوفير مواد الإيواء والغذاء بصورة عاجلة لهم.

وشهدت مناطق عدة بمحلية السلام، جنوب ولاية النيل الأبيض، التي تضم أكبر معسكرات اللاجئين من دولة جنوب السودان، أمطاراً غزيرة الأسبوع الماضي، مما تسبب في انهيار عدد من المنازل وغمر المزارع.

وفي جنوب دارفور اجتاحت أمطار غزيرة مصحوبة بسيول جارفة فجر الأربعاء 24 أغسطس الحالي، معسكر كلمة للنازحين بمحلية بليل، مما تسبب في خسائر كبيرة في الممتلكات، وتدمير منازل عدة، مما اضطر النازحين إلى اللجوء إلى المدارس والمساجد والساحات العالية داخل المخيم.

فيضان الخرطوم

أما الخرطوم فقد بات فيها خطر الفيضان ماثلاً بعد بلوغ مناسيب النيل الأزرق، منذ يوم أمس الخميس 25 أغسطس، مرحلة الفيضان، مسجلاً ارتفاعاً قدره 16.5 متر.

مدير مياه النيل بوزارة الري والموارد المائية، رئيس لجنة الفيضانات صغيرون الزين صغيرون، عزا ارتفاع المنسوب على هذا النحو إلى اختناق مجرى النيل الأزرق عند العاصمة، بسبب التوسع العمراني بولاية الخرطوم.

وأشار إلى أنه لا يزال هناك متسع للتخزين ببحيرة خزان الروصيرص وأن وضعه مستقر، لافتاً إلى أن نهر النيل الأبيض يشهد أيضاً ارتفاعاً تاريخياً غير مسبوق في مناسيبه هذا العام، على غير عادته في السنوات الماضية.

وكشف صغيرون لـ”اندبندنت عربية” عن إجراءات تقوم بها الوزارة لضبط تدفق المياه خلف خزان الروصيرص، بحيث لا يزيد التدفق على 500 مليون متر مكعب في اليوم، وذلك لتخفيف الضغط على المناطق الممتدة ما بعد الخزان.

وأوضح أن الزيادة التي طرأت على مناسيب النيل الأزرق حدثت في وقت وجيز بسبب عبور المياه الممر الأوسط لسد النهضة بشكل فجائي، ما يستدعي رفع مستوى التحذيرات التي سبق وأطلقتها الوزارة بخاصة للمناطق المجاورة لمجرى النهر.

لفت مدير مياه النيل إلى أن امتلاء مجرى النيل يحرم الخرطوم من التصريف الطبيعي لمياه الأمطار، وأن أسوأ سيناريوهات الغرق تحدث عندما يتقابل الفيضان مع غزارة الأمطار والسيول في فصل الخريف.

تماسيح مفترسة

كشف التقرير اليومي للجنة الفيضانات عن أن جميع القطاعات على النيل وروافده (جبل أولياء – الخرطوم) و(شمال الخرطوم – شمال عطبرة) و(مروي – دنقلا)، تشهد ارتفاعاً في مستويات المياه، وتقترب من مناسيب الفيضان.

في الأثناء حذر مدير الدفاع المدني عثمان عطا مصطفى من فيضان متوقع للنيل نسبة إلى الارتفاع الكبير في مناسيبه، وقال إنهم لاحظوا ظهور تماسيح في النيل.

ودعا مصطفى المواطنين إلى أخذ الحيطة والحذر من التماسيح التي قد بدأت في الظهور بمحلية جبل أولياء، مناشداً المواطنين بالتبليغ الفوري لنقاط ارتكاز الدفاع المدني المنتشرة على المناطق النيلية للمراقبة والتدخل السريع حال ظهور أي حيوانات مفترسة.

الطوارئ الإنسانية

بدورها، عقدت اللجنة العليا للطوارئ الإنسانية اجتماعاً ركز على مآلات الظروف الاستثنائية المرتبطة بالسيول والفيضانات، وجهود أجهزة الدولة للتصدي لها.

وأوضح وزير الثقافة والإعلام جراهام عبد القادر، في تصريح صحافي، أن الاجتماع استعرض جهود المنظمات والجمعيات والقطاع الخاص، إلى جانب عملية التنسيق بين المركز والولايات خلال عمليات توزيع المعونات، مشيراً إلى أن اللجنة استعرضت الأوضاع في ولايات نهر النيل والجزيرة والنيل الأبيض وجنوب دارفور وغرب كردفان وسنار.

وقال عبد القادر إن اللجنة نظرت للمطلوبات الحقيقية لمواطني كل ولاية، بغرض تقديم الإغاثة بحسب الحاجة، كما وضعت في الاعتبار صحة البيئة وما قد يترتب عليها من مضاعفات صحية.

وكان مجلس الوزراء السوداني أعلن الأحد 21 أغسطس الحالي، حالة الطوارئ في ست ولايات بسبب السيول والأمطار، هي ولايات نهر النيل والجزيرة والنيل الأبيض وغرب كردفان وجنوب دارفور وكسلا.

كما أعلن المجلس استنفاراً للجهود الشعبية والرسمية لمساعدة المتأثرين بالأضرار البالغة التي لحقت بهم في نواحي الصحة والتعليم وانهيار المدارس والمؤسسات مما يتطلب تدخلاً عاجلاً، ونادى بتقوية أنظمة الاستشعار والإنذار المبكر تفادياً لمثل هذه الأضرار مستقبلاً.

مخاطر وتحذيرات

من جانبها، حذرت لجنة أطباء السودان المركزية من كارثة ومخاطر بيئية وصحية جراء المياه الراكدة في الولايات المتأثرة، ما يهدد بانتشار الأوبئة كالإسهال والحمى والنزلات المعوية، وبعض الأمراض المعدية المنقولة عبر المياه، فضلاً عن المخاطر على الحوامل وتعرض كثير من المواطنين الذين فقدوا منازلهم للدغات العقارب والثعابين والحشرات السامة، مطالبة بسرعة التحرك لتصريف مياه السيول والأمطار تفادياً لتلك المخاطر.

مشيرة إلى أن انعدام البنية التحتية لتصريف المياه في معظم مدن ومناطق البلاد يراكم المياه الراكدة لأيام عديدة، ما يجعلها بيئة خصبة لانتشار الأوبئة.

طالبت اللجنة بالاعتراف بوجود كارثة صحية وبيئية وإعلان حالة الطوارئ وتوجيه كل ميزانيات الولايات لمعالجة الوضع الصحي والإنساني في المناطق المنكوبة، وفتح الباب واسعاً للمنظمات العالمية والإقليمية والمحلية لتقديم المساعدة.

تعاطف وتوقعات

أوجدت المأساة تعاطفاً إقليمياً ودولياً مع السودان، بخاصة من الدول العربية على رأسها السعودية والإمارات وقطر ومصر التي سارعت بإرسال مساعدات للمتضررين شملت مواد غذائية ومواد إيواء، وصل بعض من تلك المعونات فعلياً إلى الخرطوم، هذا فضلاً عن التعاطف المحلي من القوات المسلحة والشرطة وقوات الدعم السريع وجهاز الأمن والاستخبارات وديوان الزكاة ورجال الأعمال ومنظمات المجتمع المدني الوطنية، التي سارعت بإرسال قوافل مساعدات إلى الولايات المتضررة.

وتوقعت الهيئة العامة للأرصاد الجوية هطول أمطار غزيرة في ولايات كسلا وولايات إقليم دارفور والنيل الأزرق وسنار والقضارف.

وقالت وحدة الإنذار المبكر إن ولايات البحر الأحمر ونهر النيل والجزيرة والخرطوم والنيل الأبيض وكردفان الكبرى قد تشهد أمطاراً خفيفة إلى متوسطة.

وعلى مدى السنوات الخمس الماضية ظلت كوارث السيول والأمطار والفيضانات تتكرر في السودان، بصورة شبه سنوية نتيجة تدهور البنية التحتية، حيث شهد العام الماضي تضرر أكثر من 18 ألف منزل وما يقارب من 90 ألف مواطن في معظم ولايات البلاد.

اندبندنت

Exit mobile version