“الأطفال لا يعرفون الموضوعية وأنا في حبك كالأطفال”.. الكاتبة..! هذه إعادة كتابة لأهم ما جاء في رسالة قارئة كتبتها على طريقتها ثم عبرت أنا عن ما كان يجيش في صدرها على طريقتي. تقول صاحبة الرسالة: “تخيل منظر إنسان يائس معلقٌ من ياقة قميصه فوق مشجب على جدار شاهق، يحاول أن يرفع ياقة القميص فيشده ثقله إلى أسفل، يفكر بأن يخلع قميصه فيتذكّر أنه سوف يهوي إلى الأرض عارياً، ثم جثة هامدة. أنت علَّقتني – هكذا – وعلى ذات المشجب ثم أدرت ظهرك لي، فلا أنت تركتني أهوِي لأموت، ولا أنت بسطت يدك إليّ لتنزلني إلى أرضي التي كنتُ عليها، في غفلتي وأماني، قبل أن تستعمرني..! لعل حرصك على الخروج من ورطة تعلُّقي بك يشغلك عن التفكير بحالي، غاضب أنت من تجاوزي حدود اللعب، مثل بائع حلوى أراد أن يتسلى بالمزاح مع شحاذة صغيرة، مرت بجواره، لكنه ما لبث أن غضب وندم عندما ألصقت أنفها المتسخ بزجاجه البراق المصقول.. ثم، ها هو مشغول بإبعادها، وها هي تفيق على قسوة الحرمان. ولو لم يعبث معها لا كان اتسخ الزجاج، ولا كان تعكر المزاج، لكنها طبيعة البشر الخطاءين..! قد أكون امرأة ساذجة في شؤون العلاقات الرجالية النسائية، المداخل، والمخارج، والمزالق، والمهالك، وهذا – على كل حال – كان ولا يزال خياري، لكن المهم في هذا الأمر، هو يقيني الروحي وقناعتي القلبية الأكيدة بأنك، ويا للغرابة، – وعلى الرغم من كل شيء – إنسان يصعب جداً أن يكرهه أحد..! يصعب جداً أن أكرهك وهذا شيء مؤسف – بالطبع – لأنه لن يساعدني في رحلة العودة. ولكن ها أنا ذي أحاول جاهدةً، وبعزم أكيد. وحتى تحفظ زجاجك المصقول من غارات يديّ، أدُع الله لي أن أنجح فأريح وأستريح..! كنتُ جائعة للحب عندما قرع صوتك أبواب مسامي؟. هذا ممكن. كنتَ أنتَ وليمة عاطفية يصعب ألا أشتهيها؟. هذا أكيد. المهم أنني أعيش اليوم – وبفضلك – محنة سمكة الأديب سالنجر التي دخلت إلى وليمة أعشاب البحر من فتحة ضيِّقة بين صخرتين، فأكلت وشبعت حتى أصبح لا سبيل إلى خروجها إلا بأن تفرغ ما في جوفها كله دفعة واحدة، أو أن تنتظر بصبرٍ رحلة عُسر هضم طويلة وهي رهينة مَحبسيْها، سجنها وعَماها..! بلى يوجد في هذه الدنيا أشخاصٌ بهذا العَبط، سُذَّج وبُلهاء عندما يتعلّق الأمر بمهارات التواصل العاطفي، لكنهم أوفياء لكل حقيقة يعيشونها، لا يُثير اهتمامهم في هذه الدنيا إلا الحُب، ومع ذلك لا ينتهجون التجريب والمُغامرة في كل سانحة ومع أياً كان، لذلك تجدهم يعيشون في عالم صغير وشبه معزول، يخبئون أكثر مشاعرهم نبلاً وأكثر زفراتهم حرارة وأطول رغباتهم جموحاً للطارق الوحيد المنتظر الذي لا يأتي أبداً في الغالب..! الآن أضحك – أكون قد جننت أو ما شابه – وأنا أفكر كم يدمي كرامتي ويفتت كبدي كل هذا، ومع ذلك لا أملك إلا أن أبتسم ببسالة وأنا أتأمّل موقفي معك ومنك وأراقب بمُتعة ماسوشية غريبة. وكأنني انفصل بذلك عن ذاتي “لأراقبني” وأنا أغادر أرض اللوحة، أسبح في فضائها، ثم أطفو على سطحها مثل تلك المخلوقات الغريبة الطائرة، في لوحات “شاغال”..! زجاجك البراق عاد مصقولاً يغري زبائنه الدائمين، والشحاذة الصغيرة رضيتْ من الغنيمة بالإياب. أشكرك كثيراً على كل شيء، أنا الآن مرتاحة وقانعة. انتهى العزاء بانتهاء مراسم الدفن، لا رسائل هاتفية، ولا مكالمات لا ولمْ ولنْ يُرَد عليها، أعدك..! لقد قطعت على نفسي طريق عودتها الشاقة من تلال الكبرياء الوعرة إلى سهول حنيني المترامية نحو وصالك وما عاد الوصول إليك مُمكناً بلغة الاتصالات ولم يبق لي إلا أرشيفك الصوتي المحفوظ في الخلايا، وفتوحاتك العظيمة الغائرة في قلبي، استعيدها في صمت كلما استوى الماء والحجر دون أن يضيرك ذلك في شيء. أعدك..!
صحيفة الصيحة