تعتبر أواخر التسعينيات هي نهاية العهد الذهبي للتعليم في السودان بعد أن تم إنهاء المرحلة المتوسطة، وتغيير السلم التعليمي لمرحلتين فقط أساس وثانوي، بعد أن كان التعليم الحكومي هو الوحيد خلال تلك الفترة، إلى أن تم تغيير السلم التعليمي وبدأ انهيار التعليم العام، نتيجة للقرارات الارتجالية التي تتخذها الحكومة بين الحين والآخر، فضلاً عن التغيير المستمر في المناهج وتسييسها وعدم الثبات عند نهج معيَّن، وكانت آخر تلك القرارات هي إلغاء تجربة المدارس النموذجية التي اختلف حولها الخبراء منذ قيامها وحتى قرار إلغائها وإعادتها من جديد .
تخبط ثوري
جاء قرار إلغاء المدارس النموذجية من قبل حكومة الثورة واعتبره المختصون تخبط في القرارات، ويرى من اتخذ القرار أن تلك التجربة بها نوع من التمييز بين الطلاب والطالبات، رغم أنها كانت تدفع بالعملية التعليمية الحكومية، فكان معظم المئة الأوائل من المدارس التعليم الحكومي النموذجي، لتعمل المدارس الخاصة على استقطابهم بعد أن فشلت الحكومة في الاهتمام بهم، ويرى الخبراء أن إعادة التجربة يعيد هيبة التعليم الحكومي، وشدَّدوا على تعميم التجربة على مرحلتي المتوسط والابتدائي لتقوية التعليم الحكومي من جديد، بدلاً من دعم التعليم الخاص بتلك المواهب والمبدعين .
محاسن ومساوئ
في بداية حديثنا عن إعادة تجربة المدارس النموذجية تحدثت (الصيحة) مع مديرة إحدى المدارس الثانوية الجغرافية، وقالت لـ(الصيحة): إن لذلك النوع من المدارس له محاسن كثيرة جداً أهمها إحياء روح المنافسة بين الطلاب، إلى جانب المنافسة على المستوى القومي ورغبة المدارس في دخول ضمن المئة الأوائل، وهذا من شأنه يعمل على تقوية التعليم الحكومي، الذي انهار في الآونة الأخيرة، وذكرت -أيضاً- أن تلك التجربة لها مساوئ وتمكن في إحداث قصور وإهمال للمدارس الجغرافية، وشدَّدت على ضرورة الاهتمام بها، كما أوصت بإتاحة الفرص للذين تفوَّقوا في الفصل الأول ثانوي بالمدارس الجغرافية وقبولهم بالمدارس النموذجية لزيادة التنافس والعدل بين الطلاب، وأرجعت ذلك إلى أن هناك طلاب يجتهدون في المرحلة الثانوية أكثر من مرحلة الأساس ولهم الحق في اللحاق بتلك المدارس والاستفادة من بيئتها في الحصول على تحصيل أكثر.
تصنيف تربوي
بينما يرى الخبير التربوي دكتور النعيم أحمد، أن فكرة المدارس النموذجية فيها نوع من الظلم والإجحاف للمعلمين والطلاب معاً لأن المعلمين يتعاملون مع طلاب صنفتهم إداراتهم التربوية من الدرجة الأولى، وهذا خصماً على العملية التعليمية والتربوية، وانهزام لمبدأ تبادل الخبرات وتوزيع الفرص العادلة بين المعلمين ونقل خبراتهم لجميع الطلاب، لذلك المدارس النموذجية أحدثت هزة نفسية في نفوس طلاب المدارس الجغرافية وقتلت روحهم في تفجير طاقاتهم الكامنة، وأعدمت مبدأ التنافس الحر بينهم، وحرمتهم من نظرية الاحتكاك والتأثر واكتساب الخبرات .
ويرى النعيم أن تجربة المدارس النموذجية أضعفت الإدارات المدرسية وعمت الفوضى في المدارس الجغرافية، وأهملت الأنشطة اللا صفية وأسقطت الكثير من المهام التربوية لمديري تلك المدارس، وليس هناك فضل للمدارس النموذجية سوى أنها حشد لها الطلاب والطالبات المميزين، وأصحاب الدرجات العليا من خريجي التعليم الأساسي، وتساءل النعيم (لماذا لا يكون كل التعليم نموذجي) وعدم حرمان الطلاب من الإبداع وهناك طلاب قد يكون نسبة ذكائهم أقل بمرحلة الأساس ولكنهم ينهضون بالمرحلة الثانوية، وأعتبرها تمييز لفئة قليلة لا تتجاوز (2%) ومع ذلك يتمتعون باهتمام وميزانيات أكبر، وأوصى الخبير التربوي أحمد النعيم، بالعدالة بجميع مؤسسات التعليم الحكومي، حتى لايهضم حق المعلمين بالمدارس الأخرى.
حرب خاصة
كما يرى دكتور النعيم أن المدارس النموذجية هي حرب للمدارس الخاصة وهي مدارس وطنية ولابد من دعمها بدلاً من محاربتها لأنها تقدم خدمات متميزة، إلا أنه عاد وقال: لابد من ترشيد المدارس الخاصة على أن تراعى فيها اللوائح التربوية .
تجديد تربوي
واختلف معه في الرأي الخبير التربوي دكتور حمدان أبو عنجة، في أن قرار إعادة المدارس النموذجية هو قرار صائب، لأن إلغائها كان خطئاً كبيراً، وأرجع ذلك إلى أن المسألة مسألة تجديدات تربوية والقياس والتقويم، والاهتمام بالفرد قياس تقدِّمه مع نفسه، كما أنها متعلقة بالذكاء المتعدِّد، وأضاف أن تقسيم التعليم إلى مسارات هو أمر جيِّد يعود لحاجة المجتمع وقدرات الدارس، ونفى أن يكون ذلك تمييزاً، لأن الله خلق الناس على مستويات مختلفة ويعيشون في حالة تباين.
جودة شاملة
إذاً لماذا لا نقدر ذلك التباين في التعليم، وأضاف: إن العالم المتقدم ترك التعليم التقليدي واتجه للجودة الشاملة المبنية على ركائز المعايير وهي ركن من أركان الجودة في التعليم، وقال: إن كل مؤسسة ذات قيمة لها معايير ومؤشرات للحصول على تعليم عالي الجودة، واعتبر أن التعليم في السودان تقليدي يأخذ الطلاب في شكل قطيع عبر الفصول وعبر السنوات والمراحل مع جمع جميع مستويات الذكاء في فصل دراسي وأعوام دراسية واحدة، واعتبره أبو عنجة هدر للمال والعمر و الوقت، وعدم الاهتمام بالإنسان المتقدِّم .
قياس خاص
وشدَّد على ضرورة وضع عملية قياس وتقويم رأسي من خلال تقدُّمه على نفسه وليس أفقي بتقدُّمه مع زملائه، لذلك لابد أن يكون هناك تسريع في التقويم والقياس حسب القدرات والجهد، واعتبره حمدان هذا من اقتصاديات التعليم، لذلك المدارس النموذجية مطلوبة في كل العالم ومعمول بها .
قيمة زمنية
وقال حمدان لـ(الصيحة): إن هناك أصحاب المصالح تلك التجربة تضر بمصالحهم مستشهداً بالمدارس الخاصة، فوائد نجنيها من إعادة تجربة المدارس النموذجية هي الاهتمام بأبناء الفقراء الذين لا يستطيعون دفع تكاليف التعليم الخاص فهو المتضرِّر من إلغاء المدارس النموذجية وعودتها قرار صائب ندعمها ونؤيدها، وشدَّد مرة أخرى على تسريع عمليات القياس والتقويم للمفوقين كسباً للزمن الذي ليس له قيمة في السودان واعتبرها عملية غير مكلفة، ولكن هناك استسلام من قبل الحكومة، كما أن التخطيط فاشل ولابد من شئ من المغامرة للوصول إلى الأهداف والغايات .
الخرطوم: أم بلة النور
صحيفة الصيحة