عثمان ميرغني يكتب.. السيول والفيضانات.. نقمة أم نعمة؟

نكتة أطلقها الشعب السوداني خلال حكم الرئيس الأسبق جعفر نميري، تقول إنه سأل معمر القذافي: لماذا لديكم وزارة للزراعة وأنتم بلد صحراوي بلا زراعة؟ رد عليه القذافي: ولماذا لديكم في السودان وزارة للمالية؟

التناقضات التي لعبت عليها فكرة هذه الطرفة، تشابه قضية المياه في السودان؛ ففي الوقت الذي يغرق السودان في مياه السيول والفيضانات، لا تجد هذه المناطق نفسها مياه الشرب النظيفة.

وقد بثت الفضائيات خلال الأيام الماضية ولا تزال، صور السيول التي اجتاحت مناطق واسعة في السودان ودمرت البيوت والمزارع والمرافق الخدمية و سَوّت بالأرض قرى كاملة، وبدت المشاهد التي بثتها الفضائيات مُهيبة حيث الماء تغطي كل شيء ولا يبدو فوقها إلا جزر معزولة من ركام البيوت المنهارة.

هل يصدق أحد أن نفس هذه المناطق التي تقع على ضفاف النيل وتجتاحها سنويًا السيول، يعاني سكانها طوال السنة من العطش؟!

قبل سنة واحدة من سقوط الرئيس السوداني البشير، زار بعض قرى ولاية الجزيرة، التي تقع بين النيلين الأزرق والأبيض، وفي خطابه الذي بث على الهواء مباشرة قال لهم (إنني أتعهد لكم بتوفير ماء الشرب)! بعد 30 سنة من حكمه يلتزم لقرى تقع على ضفاف نهر النيل الأزرق بأن تتوافر لهم مياه الشرب!

وظلت مدينة بورتسودان التي تقع على ساحل البحر الأحمر تتلقى وعدًا رئاسيًا لأكثر من 14 سنة بأنها آخر سنة للعطش، وبعدها يتوافر الماء، وإلى أن أطيح بالنظام السابق لم يتحقق الوعد المكذوب.

السودان الذي تشقه 10 أنهار وتهطل عليه أمطار سنوية تفوق معدلات ما يجري في نهر النيل من ماء، ويملك مخزونًا هائلًا تحت الأرض بحيرات من المياه الجوفية، مع ذلك فإن غالبية المناطق تعاني من العطش وشح المياه، حتى في أحياء العاصمة الخرطوم.

وفي كثير من قرى السودان، يسير الأهالي لأكثر من يوم ذهابًا ومثله إيابًا لإحضار ماء قليل للشرب، للدرجة التي تُجبر كثيرًا من الأسر أن تستبقي أطفالها خارج المسار التعليمي كونهم لا يقدرون على الجمع بين رحلة البحث عن الماء والذهاب إلى المدارس لتلقي العلم.

حتى المناطق التي حباها الله بموسم أمطار غزيرة كل عام، ما يلبث أن ينتهي الموسم حتى تعود لحالة جفاف يضطرها للترحال المستمر طوال العام خلف سراب المياه.

لو كانت هذه الكوارث التي تمسح المدن والقرى والمزارع تحدث بغتة مرة في كل 10 سنوات لربما جاز التعامل معها على أساس طوارئ الطبيعة الاستثنائية، لكنها كارثة موسمية لا تخلف موعدها في كل عام، تختلف أرقام الخسائر وربما أحيانًا المناطق لكنها تظل قصة واحدة..

فالأسباب الجذرية لهذه الكوارث الموسمية أن الحكومات والنظم السياسية المتعاقبة على حكم السودان لا تنظر للمستقبل بأبعد من اليوم التالي في أفضل الظروف، وتعد ”الأزمات إنجازات“، فعندما تقع الكارثة يهب كبار المسؤولين تجري من ورائهم كاميرات الإعلام إلى المناطق المنكوبة لالتقاط الصور، بعضها وهم خائضون في مياه الأمطار من باب مواساة المنكوبين، ثم يعلنون عن تبرعات مالية أو عينية غالبًا لا تكفي عُشر ما يحتاجه المتضررون.

وعلى المواطن الذي فقد بيته ومحصوله الزراعي وكل ما يملك أن يتدبر أمره، فمهمة الحكومة تنتهي كأقصى حد في توفير خيمة مؤقته تجعل إقامته مع أسرته في العراء أقرب إلى رحلة تخييم.

وتغييب الخطط الإستراتيجية التي تنظر للمستقبل بعين تجتهد لحجب أسباب مثل هذه الكوارث هو الحل الحقيقي المستدام، فمثلًا مراجعة وإعادة تصميم المنازل في القرى والمدن التي تشيد غالبًا بمواد بناء من مواد فقيرة لا تقاوم الماء إلا لبضع ساعات، ومراجعة تخطيط القرى والمدن لتكون في مأمن أو بعيدًا عن مجاري السيول وإقامة السدود لحصاد المياه.

من الممكن لمراكز الأبحاث في الجامعات السودانية – خاصة جامعة الخرطوم التي لديها واحد من أفضل مراكز أبحاث البناء في القارة الأفريقية- استنباط تصاميم ومواد بناء قليلة التكلفة وقادرة على مقاومة الماء لأطول فترة ممكنة، وتستطيع وزارات التخطيط العمراني في الولايات عمل مسوحات جوية تحدد مسارات السيول – وهي ثابتة منذ خلق الله السودان- وإعادة تأهيل القرى المنكوبة في مواقع لا تقع في مسارات السيول أو تقام سدود لحصاد المياه تمنع تدفق مياه الأمطار نحو المناطق المأهولة بالسكان.

شاهدت بنفسي تجربة السدود في منطقة شرق النيل بولاية الخرطوم، كانت الأمطار حتى عهد قريب تدمر مناطق شاسعة وتزيل قرى بأكملها بشرق النيل وفي ساعات قليلة، فتحولت النقمة إلى نعمة، شُيدت سدود لحجز المياه المنحدرة من سهول البطانة لتجعل منها بحيرات تحافظ على المياه أحيانًا لعام كامل حتى موسم الأمطار التالي، وأصبحت هذه المناطق مخضرة بغابات نمت في مناطق احتجاز المياه، فأثرت حتى على البيئة والطقس.

أما قضية مياه الشرب؛ وهي أزمة حقيقية حتى في أحياء العاصمة التي ترقد على ضفاف 3 أنهار، فما تصرفه الدولة من أموال بالعملة الصعبة لتوفير الدواء والعلاج لمرضى تلوث المياه أكبر كثيرًا مما تحتاجه لتمويل إنشاء محطات المياه والآبار لتوفير الماء النظيف في المدن والقرى.

وفي ظل الاستخدام الواسع لآبار الصرف الصحي التي يحفرها المواطنون بكل بيت بالمدن الكبرى، مع غياب نظام للصرف الصحي المنظم، أصبحت هذه الآبار مهددًا حقيقيًا للبيئة وملوثًا لمياه الشرب التي ثبت في أكثر من حادثة أنها اختلطت بمياه الصرف الصحي.

من الحكمة النظر في استحداث وزارة خاصة للمياه تشرف على إخراج السودان من دائرة السيول والفيضانات، وتنهي للأبد الشكوى المستمرة عبر الأجيال من شح مياه الشرب.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

إرم نيوز

Exit mobile version